لفترة طويلة تصورت أن نجيب محفوظ كتب عن سكان الدور الأرضي في ناطحة سحاب الهيكل الاجتماعي للمصريين، فيما تخصص إحسان عبد القدوس في الطابق العلوي؛ المجتمع المخملي وذوي الياقات البيضاء وربطات العنق الباريسية، ووضعت فيما بينهما باقي الكُتاب.
صحيح أن كثيراً من الكتاب تنوعت أعمالهم بين العديد من الطوابق، لكن يظل لكل منهم تيمته الخاصة به، مساحته الفريدة التي يتميز فيها.
هكذا تصورت خطأً –أو جهلاً إن اردت- أن لا طبقات أخري أسفل عوالم محفوظ الذى كتب عن أصغر مساحات المدينة، زقاق المدق، حتى وقعت صدفة على رجل لا يتقن في دنياه شيء سوي الحكي، يتحدث فلا تظن أن نهره سيجف، يقف بك على أحد النواصي ثم سرعان ما ينعطف بك يمينًا فيسارًا فيمينًا، وإذا أنت خلفه مسحور بهذا العالم الجديد، فلا تدري أي طريق سلك، ولا في أيها جلس وشرب الشاي مع حجر معسل وغمز بعينه خلسة للبنت الواقفة خلف المشربية. تضربك الظنون، وإذا أنت تائه عازف عن الإياب راغبًا في مواصلة الترحال، حتى وإن باتت عودتك إلى محلك القديم شبه مستحيلة؛ ذلك باختصار المبدع الراحل خيري شلبي صاحب رواية (وكالة عطية).
تبدأ الرواية بأغنية شعبية للقمر، ورغم بساطتها المفرطة، إلا أنها تقدم لك نمط الكاتب الكبير، والذى اعتبره، دون مبالغة- المقابل للكولومبي العالمي جابريل جارثيا ماركيز، غرق كلاهما في العجائبية السحرية. ماركيز بعالم أمريكا اللاتينية المليء بالأساطير والخرافات، المسكون بأحلام المساواة المكبوت بهراوات الديكتاتوريين، وخيري في طين المحروسة المعجون بعرق البسطاء والمهمشين.
اخترع خيري شلبي عالمه العجائبي وأسكنه (وكالة عطية)، كما اخترع ماركيز (ماكوندو) وأسكنها روايته، مائة عام من العزلة، حتى لتظن أن الوكالة قائمة بأحد ضواحي مدينة دمنهور، التى اختارها مسرحًا لروايته.
تبدأ الأحداث بموقف متوتر بين طالب بمعهد المعلمين ومدرس الرياضيات، سرعان ما تحول إلى مشاجرة، انتهت بعاهة مستديمة للمدرس وفَصل الطالب مع حكم بالسجن مع إيقاف التنفيذ. يترك الطالب سكنه ويقيم بالوكالة ليروي بلسان حاله عنها وعن سكانها المنتشرين –كالنمل- في شوارع وحواري وأَزِقَّةٍ وسراديب المحروسة، ربما لا تلتفت إليهم أو تتخطاهم عيناك من دون اكتراث، لكنهم -ومن دون شك- يساهمون في صنع الصورة الأكبر للمحروسة، ولا أغالي إن قلت أنهم مكون رئيس فيها، إن نزعتهم منها بدت مشوهة.
يروى الكاتب الأحداث، دون ذكر اسم بطل قصته، وبحسب الحوار يشير له بفلان، أو ذا الجدع، أو أخانا. ثم يحدثنا عن (شوادفي) صاحب الوكالة، يحكمها بالحديد والنار، يعرف كل أسرار السكان، كلمته أمر ورأيه قانون. ثم يُعَرِج على الغرف والساحات فيصف سكانها؛ القرداتي، الداية والحانوتي، الغازية، ضاربة الودع، الباعة الجائلون (السريحة)، النشالين والهجامين وباعة الصنف، صبي القهوة، وغيرهم.
لم يكن الجديد في رواية خيري شلبي تقديمه لفئات العَيَارين والمهمشين فقط، بل معرفته التامة بأسرارهم، يصف لك كيف يمارس النشال مهام عمله، وكيف يستدر الشحاذ عطف الناس، وفنون تدريب القرود، وخفايا البيع والشراء والإيقاع بالزبائن، وحيل الخاطبة للإيقاع بالعريس، واستغفال الزبون وتبديل الذهب بآخر قشرة، وغيرها مما لا يخطر على بال.
عالم عجيب يروي خيري شلبي خفاياه معتمدًا على معايشة ومعرفة عميقة بالتفاصيل، ودراية تامة بلغة الكار، عاداتهم وتقاليدهم وقوانينهم الخاصة وأعرافهم. دور مسحور يمتد أسفل طابق نجيب محفوظ، كلما كَحَتَّ منه طبقة وظننت أنك وصلت للقاع وجدت طبقة سحرية أخري غنية بمفرداتها وخصائصها وعالمها الفريد، بنيانا عميقا بلا قرار.