آخبار عاجل

فوق جدار الصين بقلم : عصمت الموسوي

04 - 08 - 2021 11:51 771

هذه حكاية وقعت لي في العام 2006 اثناء رحلة سياحية الى الصين ، وقد ظلت عالقة بذهني سنوات طويلة واستعيدها كلما وجدت نفسي في مرحلة تتسم بالحيرة والتشوش وتقتضي اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب،  كنا وقتها مجموعة من الاهل والاصدقاء وعشاق السفروهواة المغامرات وفي اعمار شابة ومتفاوتة نسبيا، البرنامج الذي بدأ من الصباح الباكر ينطلق من زيارة سور الصين وصعوده ،خصصت وزارة السياحة في الصين عددا من المواقع على امتداد السور لزيارات السياح، نحن قصدنا قسم موتيانيو على بعد حوالي 60 كيلومترا شمال وسط الصين وهو احد اكثر اقسام النصب شهرة واقلها ازدحاما، والمعروف ان ارتفاعات السور تتفاوت من منطقة لأخرى حيث يقطع صعودا وهبوطا جبالا ووديانا وسهولا وصحارى لمسافة تمتد نحو  1500 ميلا ، قدمت لنا المرشدة السياحية ونحن في الحافلة ثلاث نصائح مهمة : اجراء تمرينات التحمية تلافيا للشد او التمزق العضلي ،الالتزام بالصعود بطريقة حلزونية كمشي الافعى كتقنية مجربة وسريعة واخف وطأة على الركب خصوصا وان العتبات متفاوتة الارتفاع ومتعرجة، واخيرا اعادت تنبيهنا الى ان الصعود الى هذا العلو يقتضي التريث لمن يعاني من رهاب الارتفاعات .

اجرينا التمرينات اللازمة ووقفنا دقيقة لالتقاط صورة جماعية تحت السورعلى وعد منا ان نلتقط صورة مماثلة لها عند القمة، وانطلقنا...

 في الطريق كنا نرى السياح يصعدون وينزلون ويتراجعون، وكلما توغلنا في الارتفاع استوقفتنا زوايا ومتاجر تسوق وهدايا واعلاما وقمصانا تحمل صورا للسور متضمة عبارات تشجيعية " انت بلغت ربع المسافة او نصفها او انت على وشك بلوغ القمة ، وذلك لمنح المترددين او المتكاسلين جرعة تحفيز اضافية، وهكذا مضى برنامج التسلق، ومن الطبيعي ان الاكثر شبابا  والاكثر لياقة والاصغر سنا  بلغوا القمة في وقت قياسي، وراحوا من فوق ومن نقطة النهاية يطلقون الصيحات ويستحثون البقية للمواصلة، " تعالوا لالتقاط الصورة " واما البقية المتمهلة تحت - وانا منهم – فراحوا يبطئون الصعود بعد ان بدأت قواهم تتضاءل شيئا فشيئا، قالت رفيقتي، ركبتي وجلست على اقرب عتبة ، نظرت فاذا امامي عتبات طويلة تبلغ ثلثي المسافة صعودا وثلث اخر للنزول ،تذكرت مثلا عالميا يقول " قد تبلغ نهاية الدرب اعتمادا على الكذب او الادعاء اوالوهم لكن السؤال هو في كيفية العودة؟ "  وكنت ارنو الى ما تبقى من مسافة صاعدة واقيس مقدرتي  الجسدية ولياقتي  الصحية ،حين بدأت استشعر الرجفة في رجلي ،تساءلت : ماذا لو اخفقت في المنتصف ؟ هل ثمة وسائل انقاذ ومسعفين ؟ صحيح ، انه السؤال الذي لم نطرحه على مرشدتنا السياحية .

برنامج صعود السور المفاجئ - والذي لم نتحسب له نحن غير الرياضيين - يماثل تحديات عديدة نخوضها في حياتنا ،بعضها نذهب اليه طواعية ،آخر نلقاه مزروعا بالمصادفة في طريقنا كهذا السور العالي ،لذا فان الوقفة الصحيحة مع النفس جديرة بالاعتبار، هنا،  انت لا تتحدى الاخر او تحاول خداعه او الاحتيال عليه انما تختبر نفسك وذاتك وقدرات جسدك ، الحسبة ان لم تكن صحيحة ومدروسة وبناء على معطيات سليمة، فالعواقب ستكون وخيمة، وهذا ما يجري لنا في كل مرحلة من مراحل حياتنا، فحين نؤسس المشاريع ونمضي قدما في مسيرة العمل المهني ونغامر ونجازف ونتخذ القرارات ونتقافز من موقع الى آخر فإنما نفعل ذلك تعويلا على رصيدنا من عناصر القوة كالصحة والعلم والمعرفة والتمكن والخبرة والمال والطاقة ونزعة المغامرة في تلك المرحلة الزمنية، هبطت رفيقتي عدة عتبات وتبعهتا اثنتان، قالت الصديقة نحتاج ايضا الى طاقة للعودة، شدتني صيحة اخرى للواصلين تستحثنا على الحركة ،"يالله ، تعالوا ، ننتظركم لالتقاط صورة تاريخية للمجموعة فوق السور" من ضمن الستة عشر فردا تراجع اربعة فقط وكنت اخر النازلين ،قبلها منحت نفسي مزيدا من التفكير والتنفس العميق،اشتريت قميصا خطت عليه عبارة " انت بلغت ربع المسافة " تذكرت انني ركبت الصعاب الكثيرة في حياتي الصحفية والسياحية ايضا، وغطيت حروبا ومناطق ملتهبة في لبنان والعراق في معمعة الحرب، وكنت على حاملة طائرات عسكرية في الحرب على العراق عام  2003 ، وكان اول تدريب تلقيناه على السفينة هو كيفية اتقاء الهجوم الكيماوي ! وقيل لنا ونحن على الحاملة : اي خطر تتعرضون له من اي جهة فهو على مسؤوليتكم ولن تتلقون اي تعويض! وقادتني التجربة ذاتها الى الابحار في غواصة مائية حربية اشبه بزجاجة مغلقة، وانطوى كل حاجز عسكري او نقطة تفتيش او معبر اجتزته على الكثير من الخوف والمخاطر، وخضت العابا مخصصة للمغامرين والشجعان فقط ،وصعدت مناطيد هوائية ومظلات هبوط ،وتسلقت اهراما وابراجا شاهقة وسلالم طويلة وملتوية واقتربت من عرين الحيوانات المفترسة في رحلات السفاري في افريقيا والهند وتايلند ،وغالبت خوفي المزمن من الاماكن المغلقة باسلوب الغمر وبالمران والتدريب،لكن كان ذلك في  عمر اصغر، حيث الشغف والحيويه واللياقة الصحية والحماس والرغبة في التنافس وتحقيق الانجاز واختبار اقصى درجات التحمل، منتحتني ذكريات الماضي الجميل رضا نفسيا وقناعة مريحة،جال بخاطري قول الشاعر العربي امرؤ القيس: وقد طوًفت في الافاق حتى / رضيت من الغنيمة بالاياب .

عدت ادراجي على العتبات الصلبة المتعبة بعد ان اختبرت نصف متعة التجربة، رددت مع نفسي قولا شعبيا مأثورا " صاحب النصيفة سالم " .

كنا قد تركنا خلفنا قبل هذا اليوم برنامجا ناجحا ومتنوعا وحافلا امتد على مدى اسبوع مع مؤتمر التصوير الفوتوغرافي العالمي " فياب " ولا يزال امامنا يومان سياحيان في العاصمة بكين قبل العودة الى الوطن عبر رحلة طيران تناهز الاثني عشر ساعة اضافة الى عدة ساعات عبور في مطار هونج كونج ليلا.... نعم كان قرار التراجع صائبا وحكيما في قبال المجازفة المحفوفة بالمخاطر .

حين التأم فريق الرحلة بعد عودة الجميع الى الحافلة ،قالت لنا المرشدة : ما لم اقله لكم قبل ان تصعدون "انني صعدت السور مرة واحدة في حياتي ومن نقطة اقل ارتفاعا وسقطت مريضة اسبوعا ولم اكرر التجربة" .


 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved