فجأة ومن دون سابق إنذار غادرت القوات الأمريكية قاعدة باجرام الجوية بأفغانستان ليلاً أوائل شهر يوليو الماضي، قبل شهر من التاريخ المعلن لبدء انسحابها وقوات حلف شمال الأطلسي، (الناتو)، لتجد كلٌ من القوات النظامية للجيش الأفغاني وميلشيات طالبان نفسيهما وجهًا لوجه.
كانت أمريكا قد بدأت غزوها لأفغانستان عام 2001، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر في نفس العام، قامت فيها مجموعات إرهابية باستهداف برجي التجارة العالمية ومقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، عبر اصطدام ثلاث طائرات ركاب بها، مما خلف آلاف القتلى والمصابين.
استهدفت أمريكا أفغانستان بذريعة تمركز مليشيات القاعدة بجبال تورا بورا الواقعة شرق البلاد والمتميزة بصعوبة ووعورة تضاريسها وكهوفها الممتدة في باطنها، مما يوفر ملاذًا آمنًا لتلك المليشيات تحت زعامة مؤسسها أسامة بن لادن الذى وجد في حركة طالبان المسلحة سندًا ونصيرًا تحت قيادة زعيمها، آنذاك، الملا عمر. كانت الحركة قد تأسست أوائل التسعينات عقب انتهاء احتلال القوات السوفيتية ورحيلها عام 1989، وسقوط الحكومة الأفغانية. إذ سمح الفراغ الأمني بتمدد الحركة لتفرض قوانينها المتشددة الخاصة وتتراجع هيمنة الدولة.
مع بدء الغزو الأمريكي انحسر نفوذ طالبان، وتقلصت سطوة تنظيم القاعدة، خاصة بعد مقتل أسامة بن لادن على يد القوات الأمريكية مايو 2011، ومن بعده الملا عمر في أحد مستشفيات مدينة كراتشي الباكستانية عام 2013.
وطوال تلك الفترة (2001 – 2021)، تولى قادة حركة طالبان الحفاظ على كيانها وخلاياها النائمة من خلال تغذية الفكر المتشدد بما يحتاجه من نصوص، والقوة المسلحة بتوفير المعدات والذخائر، إلى جانب القيام بعمليات متنوعة القدرة والتأثير على فترات متباعدة تُشبع لدى أعضائها غريزة البقاء، وتعطي رسائل للدوائر المحلية بقوة نفوذها، وللخارجية بحجز مقعد رئيسي لها على طاولات التفاوض.
ما حدث بعد انسحاب القوات السوفيتية تكرر بعد انسحاب القوات الأمريكية والناتو أوائل الشهر الماضي، فراغ أمني مفاجئ اغتنمته الفئة الأكثر جاهزية، حركة طالبان، فسيطرت على مناطق عديدة وراحت تخطط لمزيد من العمليات.
ما اشبه الليلة بالبارحة، سجل الكاتب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني في روايته "عائد إلى حيفا"، وقائع سقوطها في يد العصابات الصهيونية (صباح الأربعاء، 21 نيسان/أبريل، عام 1948. كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئًا، رغم أنها كانت محكومة بتوتر غامض. وفجأة جاء القصف من الشرق، من تلال الكرمل العالية. ومضت قذائف المورتر تطير عبر وسط المدينة لتصب في الأحياء العربية. وانقلبت شوارع حيفا إلى فوضى، واكتسح الرعب المدينة التى أغلقت حوانيتها ونوافذ بيوتها....).
رحلت القوات البريطانية فجأة دون تنسيق مع الجانب العربي، وتنسيق كامل مع الجانب الإسرائيلي. وفي ظل غياب قوة نظامية تستطيع سد الفراغ، كانت عصابة الهاجاناة الصهيونية الفريق الوحيد الجاهز، تسليحًا وتنظيمًا، فهاجمت المدينة من ثلاثة محاور ودفعت السكان في اتجاه واحد، نحو البحر، استقلوا المراكب طلبًا للنجاة وتركوا بيوتهم، وربما اطفالهم، خلفهم، وفي مساء اليوم التالي كانت المدينة قد سقطت في أيديهم.
ما حدث في حيفا وتكرر في يافا في نفس العام، يتطابق مع ما حدث في كابول، وما سيحدث في كل العواصم والبلدان المحتلة، تهيمن القوة الغازية على مفاصل الحكم، تضعف القوة العسكرية النظامية، تستفحل الميليشيات، تقضي القوة الغازية وطرها، ثم ترحل فجأة، مُخَلِفَةً هوة أمنية سحيقة تعجز القوات النظامية عن سدها، فتندفع الميليشيات المسلحة لاغتنام الفرصة، لتبدأ مرحلة جديدة من التمزق يختار فيها المواطن بين الحرب والبحر.
بالأمس كانت حيفا، ويافا، واليوم كابول، وغدًا بغداد!. حفظ الله الوطن.