آخبار عاجل

رواية مايا بقلم: محمد مصطفي الخياط

08 - 08 - 2021 7:28 668

الفصل الثالث عشر

("أقسى إدانة، إدانتك لنفسك")

 

 

سانتياجو، ربيع 2018

استيقظت على صوت الهاتف، رنات متتالية من رقم غير مسجل، اعتدلت مضطربًا مسندًا ظهرى إلى السرير، داخلنى قلق أن يكون اتصالاً من القاهرة يحمل أنباءً سيئة، ارتسم وجه أبى وأمى أمام عيناي، وقبل أن انبس بكلمة انطلق صوت نسائى على الطرف الآخر يتحدث الإسبانية دون توقف، حاولت إيقافها لأخبرها أننى لا أفهم شيئًا مما تقول وأننى لا اتحدث في هذا البلد سوى الإنجليزية إلا أن محاولاتى باءت بالفشل، راحت تكمل كلامها كمدفع لا تنقطع طلقاته ولا يهدأ قليلاً ليلتقط أنفاسه، أبعدت الهاتف عن أذنى لأقلل من تأثير صوتها المرتفع وانتظرت على أمل أن تصمت قليلاً فأتمكن من الكلام، أو تيأس وتغلق الهاتف، فجأة رانت لحظة صمت تبعها صوتها متقطعًا متسائلاً (آلو ... آلو ...)، كأنما تتأكد أننى ما زلت على الخط، بصوت هادئ وبطئ اعتذرت لها أننى لا أعرف الإسبانية وأننى استطيع أن أتحدث معها بالإنجليزية، إن كان هذا مناسبًا لها، فبادرتنى معتذرة (بيردون بيردون) وأغلقت الهاتف.

هرب النوم وآن لى الاستيقاظ مُكرهًا لأبدأ مراسم يوم الأجازة مبكرًا رغم أنفى، مؤثرًا السلامة ومعترفًا بعدم قدرتى على استعادة النوم مرة أخرى، هربَ طائر النوم الملون عذب الصوت من كلتا عينيي وطار بعيدًا فرحت أتابعه بعين الحسرة متأملاً  كفاي الفارغتان، كنت أتطلع لنوم طويل استيقظ بعده وقد استرد جسمى بعضًا من عافية غادرته بعد نحو عشرة أيام من العمل المتواصل استعدادًا للمشاركة في مؤتمر يعقد في نيويورك والانهماك في إعداد النسخة النهائية للرواية النذر. ما عادت الحسرة تفيد؛ صعب أن أقلق ثم أعاود النوم، يعشش الأرق والهواجس وتتزاحم أفكار لا أعرف مصدرها ولا كيف تتوالد وتنقسم كالبكتيريا، فكرة تجر فكرة تجر أفكارًا، هل تخشى الأفكار الوحدة أم يتآمرن علىّ لشنقى على بوابات السهاد، فلا أجد خلاصًا إلا في العزوف عن النوم ومغادرة السرير.

تبدأ الهواجس من نقطة في الفراغ، مقطوعة الزمان والمكان، جملة عفوية ربما قلتها أنا أو شخص آخر، ربما أمى، أبى، مايا، أليخاندرو، غادة، أرانى طفلاً أجرى في أرض أبى أو ألعب أنا وأخى الأكبر مع أصحابنا في القرية، وربما أرانى في أحد المكاتب التى عملت بها في القاهرة، أو بيروت، أو سانتياجو، لا أعرف كيف تتدحرج تلك الأفكار في رأسى، كُراتٍ زجاجية تنزلق على سطح أملس لا نهائى يمتد من نقطة في قلب القمر إلى آخر حدود الشمس، سنوات ضوئية تقطعها طولاً وعرضًا دون كلل.

كيف تنفثيء فقاعات الأفكار من جوف الماضى السحيق، كيف تكبر ويتردد صدى أطيط أقدامها على أرض الزمن الصخرية، يزكم أنفى غبار رطب يملأ قاعات العمر، يرتفع غطاء معدنى ثقيل الوزن أسود اللون ذو مربعات صدئة، تُصدر إزاحته على الأرضية صريرًا معدنيًا مُنفرًا، تُطل فكرة برأسها وتتأمل جلال الصمت وفراغ الذهن، تسحب ساقيها المتدليتان خارج فتحة الزمن، تقف على حافة فوهة الأفكار مُحركة كفها لرفيقاتها حركة ذات معنى فتتقاطر الأفكار من كل حدب وصوب، تعلو أصواتهن في فراغ رأسى، تفرض الأعلى صوتًا نفسها. رأسى كرة تنس تتقاذفها الهواجس في كل زوايا الملعب دون اعتبار لقواعد اللعب.

أراني طفلاً يعبر المراهقة وجلاً، أسرق بعض النظرات إلى وجه ريم الرخامى المختبئ خلف أجساد طلبة المدارس المحشروين في الميكروباص، مريول المدرسة السماوى اللون، يقتحم المشهد وجه جيهان المكتنز أنوثة، تضحك ملء الدنيا وأنا احكي لها على ارتباكى في امتحان الشفوى بينما أواصل أداء المشهد التمثيلى ساخرًا، مشهد آخر تبدو واجمة فيه، تسرد عليّ وقائع زيارة جارهم الشاب لخطبتها، ينظر محمود في عينيي ويعقب بصوت معدنى "كش ملك". أقف على كورنيش بيروت ساعة الغروب، عند آخر نقطة في الأفق، كان الشفق مسجى مضرجًا في دماءه يحتضر في هدوء جنائزى، بينما في الجانب الآخر ينزلق نهار جديد صُبغَ بياضه بدم حُمرة الميلاد.

أتقلب أرقًا ولا استقر على سريرى، أملاً أن يخطفنى غراب النوم ويلقى بى في صحراء الوسن أو بحار الكرى فيبتلعنى حوت الأحلام فإذا ما آن أوان يقظتى لفظنى من فمه مع شلال ماء مالح إلى سطح جزيرة الحياة، ولكن هيهات، عشم بلا مبررات وأرق ضرب أوتاد خيمته في صحراء عذاباتى.

غادرت السرير متكاسلا، دخلت الحمام وأعددت قهوة الصباح ورحت اتسلى بالتنقل بين قنوات التلفاز، صور من غير صوت؛ كلها بالإسبانية عدا واحدة. كان جوًا مشمسا دافئًا يُغرى بالخروج ولكن إلى أين، فتحت ستارة الشباك فبدا الكون مشرقًا بنور ربه، في العادة لا أتريض صباح السبت، تمامًا كما تفعل مايا، أتوقف عن عادتى الصباحية في السير حينا والهرولة حينا آخر على أرصفة الضاحية الهادئة مدة نصف ساعة اعود بعدها لتناول إفطار سريع وارتداء ملابسى والتوجه إلى مكتبى، أحيانًا أجد فرناندو وقد أتى مبكرًا على غير عادته فأدعوه للدخول وإعداد فنجان قهوة ريثما ارتدى ملابسى، ثم نغادر معًا.

لا شاطئ قريب فأتمشى على كورنيشه، شتان بين بيروت وسانتياجو، حميمية ووَحْشَة، دفء المعارف وبرودة الوحدة، حتى الطقس متعاكس، صيف بيروت شتاء سانتياجو، مع رطوبة لا تفارق الصيف والشتاء، وكأن الكون يرسل إشاراته ورسائله عن تمام الاختلاف.

بقيت الطيور العامل المشترك بين المدينتين، اتبادل معها تحيات الصباح، تغادر أعشاشها جائعة على جناح اليقين بالله، فتعود ملء البطون. اعتدت نثر الحبوب إلى جوار الأشجار القريبة من بيتى فتلتقطها العصافير، تشاكس بعضها في مرح، تزقزق في إلحاح رافعة أجنحتها وذيولها مُشرئبة الرؤوس، تنشغل بالتقاط الحب بعض الوقت ثم تفزع لأقل حركة حولها هاربة إلى أعلى الشجرة تراقب بعيون قلقة حبات القمح وحركة الطريق، فإذا ما اطمأنت عاودت كرتها مرة بعد أخرى.

بدت الحديقة مشرقة بضوء الشمس مغرية بالجلوس فيها، إطار من نجيلة خضراء بعرض مترين يحيط بالمنزل تتناثر حوله أشجار الآس بثمارها البنية الداكنة وتغرد عليها عصافير داكنة اللون، أكبر من عصافير الدورى التى أعرفها في قريتنا، كم نصبت لها الفخاخ على حواف الأرض أو طاردتها بالنبل على أجران القمح، وما كان أكثر عودتى صفر اليدين بعد غزواتى الفاشلة.

عدت من خواطرى سريعًا، كنت ما زلت واقفًا خلف زجاج الشباك المطل على الشارع الهادئ، اقتحمتنى رغبة ملحة للجلوس بالخارج، لا يفصل الحديقة عن الشارع سوى رصيف من البلاط المضلع تتداخل ألوانه؛ الوردي مع الأصفر داخل إطار سماوى اللون، في تناغم جميل، لا يكاد يمر به سوى سكان الضاحية القليلين أو سيارات توصيل الطلبات، يشعر المقيمون فيه بالخصوصية فيتحلق بعضهم أمام منازلهم في أمسيات الصيف وليلتى الجمعة والسبت؛ أتذكر ذات الحلقات على كورنيش بيروت؛ وقت كنا نجلس ووجهنا للبحر وظهرنا للأسفلت، أما في تلك الضاحية؛ فيستقبل السكان الأسفلت ويستدبرون منازلهم؛ يا إلهى، قبلتنا في سانتياجو ظهرنا في بيروت.

أعددت فنجان قهوة كبير وأخرجت طاولة صغيرة ومقعدًا ورحت أراجع مسودة الرواية في الحديقة، اتصل بى الناشر أمس وكل صوته قلق ألا تدرك الرواية معرض الكتاب المزمع عقده بعد شهرين، تركته يزبد ويُرغى وبقيت صامتًا حتى سألنى،

  • ليش سايبنى أهاتى،
  • .........
  • أرجوك حط نفسك مكانى !!

أجبته ببرود،

  • اطمئن !
  •  كلمة واحدة لا أكثر تحمل رسالة ضمنية بضرورة مراجعة نفسه مستقبليًا قبل أن يهاتفنى، فرد مستسلمًا بعد ما زفر بصوت مسموع،
  • سلام
  • سلام

أنهى المكالمة وكلى يقين أنه ما تعجل إنهائها إلا ليسبنى ويلعننى وينعتنى بكل أوصاف السوء التى عرفتها قواميس السفالة وحواري بيروت.

ربما التمست له العذر، يريد إنهاء عمله والإعداد للمعرض دون توتر، القضية أنه لا يعرف أن حبر الرواية من نزيف جراحاتى، وهوامشها أرقى وسهادى، وأنى ما شرعت اكتب إلا وفاءً لنذر قطعته على نفسى، أن أجعل آية توبتى اعترافى، فخلف كل صفحة أكتبها تكمن مأساة ولحظات تمنيت ألا كانت وألا كنت، كيف انزلقت، وكيف سولت لى نفسى قطف الفاكهة الحرام وتلذذتُ بطعمها في فمى، بينما أنا غارق في بحر إثمها حتى أُذناى أدعو الله أن أبرأ منها، كم ابتهلت إلى الله أن يسامحنى ويغفر لى، وكم غرقت سجادة صلاتى في دموع عذاباتى لكننى، وبعد كل توبة أعود إليها من ذات الطريق، يائسًا مسلوب الإرادة.

أمضيت أكثر من ساعتين في مراجعة الفصول وقطعت شوطا لا بأس به أنهيت فيه قسطا كبيرًا، رفعت رأسى عن شاشة الحاسب ورحت أفرد ذراعاى وجسمى بنشوة بعثتها طمأنينة إمكانية الوفاء بموعدى مع الناشر ولأؤكد له أن كل هواجسه كانت محض أوهام، تركت كل شيء كما هو ودخلت البيت لبعض شأنى ثم كافئت نفسى بكوب آخر من القهوة مع بعض فطائر حلوة مرشوشة بشرائح اللوز الرقيقة، كنت قد جلبتها من مركز التسوق آخر مرة، استغرق الأمر قرابة العشرين دقيقة عدت بعدها إلى جلستي أمام المنزل لأجد أليخاندروا جالسًا مكاني مطأطئ الرأس، عاقدًا ذراعيه، شاردًا بعينيه ينظر إلى لا شيء، بدا وجهه مهمومًا، فبادرته مندهشًا،

  • أليخاندرو .... يا لها من مفاجأة
  • عذرا لمجيئي دون ترتيب
  • البيت بيتك
  • ....
  • ما بك .. تبدو مهموما !!

فسألني،

  • هل تلقيت اتصالا تليفونيا اليوم ؟
  • لا

أجبت مستغربا، ثم استدركت وأنا ابتسم متذكرًا ما حدث في الصباح الباكر،

  • تلقيت مكالمة خطأ في الصباح الباكر أطارت النوم من عينى
  • ليست خطأ !!

ضيقت عيناي ومال رأسى قليلا واستفسرت،

  • ماذا تقصد ؟
  • إنها سانتانا ؟
  • سانتانا ؟
  • نعم !
  • لا أفهمك !
  • حدثت كارثة صباح اليوم

أجبت بقلق وقد تجهم وجهي،

  • ماذا حدث، تكلم أرجوك
  • ....

قص على أن زوجته ارتابت بشأن أسفاره إلى لا سيرينا بحجة متابعة منزله هناك، فحصلت من عقد الإيجار على هاتف المستأجر وعرفت منه أنه لم ير أليخاندرو منذ شهور، فأيقنت أن في الأمر امرأة.

تعقبت هاتفه ورسائله فعرفت بأمر مقابلاته مع روزالينا وقضائهما عطلة نهاية الأسبوع الفائت معًا بجبال الإنديز، أضمرت المكيدة في صدرها وتعمدت التغافل عن أفعاله تاركة له الحبل على الغارب كى يتصرف بطبيعته، ومنذ يومين أخبرها أنه سيسافر لتفقد منزله في لا سيرينا بعد ما غادر المستأجر وأنه سوف يمكث هناك عدة أيام يعيد فيها إصلاح وترميم ما تلف وربما استدعى الأمر تكليف بعض العمال بطلائه مرة أخرى ليصبح مناسبًا للإيجار، ثم عقب وهو يهز رأسه بأنه على الرغم مما سيتكبده من تكاليف إلا أنها ستجذب مستأجرين مميزين يدفعون بسخاء، باركت سفره وتمنت له التوفيق كاظمة غيظها وصابرة على طعنته.

قَبَلَها ورحل تصحبه دعواتها بالتوفيق وضرورة أن يطمئنها متى وصل فالطريق طويل وتخشى عليه القيادة لمسافات طويلة، فعقب ساخرًا غامزًا بعينه (لا تخافي علىّْ، ما زلت قادرًا على القيادة لمسافات طويلة)، تركها ومضى تتابعه نظراتها النارية وفى صدرها مرجل يغلى وهو عنه لاه غير منتبه؛ مشغول بروزالينا المنتظرة على أحر من الجمر تجدد لقاءاتهما.

صباح اليوم، وتحديدًا في الساعة الخامسة والنصف وقفت تطرق باب المنزل رقم 115 بشارع فيتاكيورا بضاحية فالى لو كامبينو، فُتح الباب عن وجه أليخاندرو، كان بين اليقظة والنوم، تلبسه ذعر وتوتر عندما وجدها في مواجهته، دفعته واتجهت إلى غرفة النوم لتجد روزالينا تغط في نومها، صرخت في وجهه وصفعته فاستيقظت روزالينا فزعة لا تدرى ماذا يحدث، دارت جسمها بالكوفرتة، فيما بقت عيناها مذعورتان تتنقل بين سانتانا الثائرة وأليخاندرو الواقف كتمثال جامد، يتمنى في قرارة نفسه لو خسفت به الأرض وذاب من أمام عينيها والدنيا وما فيها.

لم يكن يفكر في شيء سوى إنهاء الموقف، لم يفكر كيف كشفت سره، ولا كيف تتبعت ترتيبات لقائهما الذى تغير مكانه قبل يوم واحد فقط، كانا بالفعل قد عقدا العزم على السفر معًا إلى لا سيرينا لقضاء عدة أيام، كما أخبرها، إلا أن مكالمة تلقاها من المستأجر غيرت الترتيب، اتصل به وأخبره حاجته مد اقامته في البيت لشهرين إضافيين، فرد عليه أليخاندرو المتمرس، متقمصًا شخصية جده التاجر المحترف بأن ذلك غير ممكن فالمستأجر الجديد سيتسلم المنزل بعد عدة أيام، بعد ما ينتهى هو من إجراء بعض التجديدات، ألح عليه المستأجر أن يمهله هذين الشهرين وأليخاندرو يعتذر بأنه أعطى كلمة شرف للمستأجر الجديد، إلى ان هبط عليه حل من السماء برع في عرضه كما لو كان محض خاطر وصدفه بحتة في مثل هذه المواقف؛ مؤداه أن يدبر للمستأجر الجديد مكانًا مؤقتًا على أن يتحمل المستأجر الحالى التكلفة، فرحب الرجل على الفور واتفق معه على تحويل المبلغ إلى حسابه، كل هذا وأليخاندرو يجس نبضه، متمنيًا في قراره نفسه زيادة المدة شهور وشهور، إذ لم يكن هناك مستأجر جديد بل هي حيلة من حيله المتقنة يساوم بها المستأجر كي يحصل على مزيد من المال. أكد أليخاندرو على المستأجر أنهم شهرين فقط ولن يستطيع مدهما ليوم واحد والرجل على الناحية الأخرى يؤكد له أنهما لن يزيدا.

على الجانب الآخر، كانت سانتانا تعلم بخيانته، وتعلم أنها سترى ذلك بعينيها، لكنها عندما واجهته انفجرت رافضة خيانته وحياتهما معًا، رافضة سلبيته وتفضيله التقاعد على العمل مكتفيا بما تدره عليه أملاك جده والذى لو تقمص شخصيته في إدارته لحياته لتغير حاله وحال الأسرة كلها، ثارت عليه رافضة انكسار أحلامها في بيت لا تعشش فيه السكينة ولا تتربى فيه بناتهما بين أبوين يقدران مسئولياتهما العائلية والعملية، لكنه خذلها؛ اختفى من المشهد، تكاد لا تحس به، رجل على الهامش تسير الحياة من حوله مكتفيا بمتابعتها في كسل وبلادة وأقصى ما يبذله السؤال عن نوع الطعام أو طلب فطيرة التفاح التى تجيد طهيها مع رشات القرفة المحمصة مصحوبة بقهوة برازيلية مقطرة.

(بلغ سانتانا شكرى العميق وإعجابى بفطيرتها)، قلت له ذات مرة أحضر فيها فطيرة صنعتها زوجته لنفطر بها في يوم أحد زارنى فيه مبكرًا. تحدث يومها عن سانتانا كما لم يتحدث من قبل حتى ظننت أن معرفته بروزالينا ليست سوى نزوة عابرة لن تستغرق طويلا يعود بعدها لزوجته، لكن ما حدث اليوم حطم كل شيء دون اكتراث ودون اعتبار لأى ماض أو مستقبل، صارت مسأله كرامة ومع من، مع سانتانا، المكافحة المعتزة بنفسها، الشجاعة في مواجهة ما يلم بهم، جميعًا، من مشاكل، غاب عن حياتهم فتصدت للمسئولية دون تردد ودون شكوى.

إذًا، لم يكن اتصال الصباح خطأ من سيدة مجهولة، كانت سانتانا، اتصلت بى كما اتصلت بكل من تعرفه من أصدقائه، لتخبرنى بخيانة زوجها، كانت في عنفوان ثورتها وهياجها، اتصلت بكل من تعرف ومن لا تعرف وأخبرته، من يوم عرفت بخيانته وهى تدبر كيف تنتقم منه، جمعت أرقام هواتف أصدقائه، حبست بخارها المكتوم منتظرة أن تطلقه دفعة واحدة في وجهه مصحوبًا بآلام سنوات طويلة من التجاهل والمعاناة، اتصلت دون أن تفكر في الخطوة التالية أو ما سيترتب على اتصالاتها من أحداث، وكنت أنا واحدًا من قائمة اتصالاتها.

يا إلهى، قدمت إلى هذه البلدة البعيدة بعد المشرقين وبعد المغربين عن مسقط رأسى وعن بيروت، قدمت هاربا من كل شيء، من ماض صنعته بيدى وعلى عينى، من ذكريات صارت طعامًا لنيران صدرى ووقودًا لهواجسى وأحزانى، هاربًا من مايا ومن كل امرأة ولكن الأقدار تأبى إلا أن تضعنى في عين العاصفة، أليخاندرو يخون زوجته ويأتينى يلتمس الخلاص، يلتمس النصيحة، يلتمس الطهر والعفاف، ما زال يرانى ذلك القديس الطاهر والشيخ الصالح العفيف.

إيه يا أليخاندرو، إيه يا سانتانا، جئت مدينتكم هاربا من ذنوبى وأوزارى قاصدًا اعتزال العالم، حتى أهلى، أمى وأبى وإخوتى، تركتهم وراء ظهري خجلاً من طهرهم وعفافهم، خجلاً أن ألوث حياتهم النقية البهية، خجلاً حتى من نفسى التى لا أعرف كيف أُطهرها، ألجأ للاعتراف أملا في الخلاص، ما أصعب أن ترتكب جرما لا تعرف كيف تتوب منه، يغفر الله الذنوب جميعا، لكنك لا تملك أن تغفرها لنفسك ولا أن تنساها ولا أن تنسلخ عنها، حنانيك أيتها النفس اللوامة. أقسى إدانة، إدانتك لنفسك.

أنا ذلك النبت الشيطانى الملتصق والمتسلق شجرة الخطيئة دون تأنيب ضمير، أنا مدعي الطهر المتخفى تحت جبة الشيخ ومسوح الراهب. بعت السكينة والطمأنينة ورحت أحرث أرض اعترافاتى بأظافر التوبة يهطل دمع ذنوبى مطرًا ويصخب برقًا ورعدًا، يجرى أنهارًا تكنس هفوات خطاياي، تعلو سطحه عكارتها، ابتهل إلى الله كي يجرف الدمع ذنوبى، يهدر شلال اعترافاتى ودموعى، تغيم السموات، تمور الأرض، يُرعدنى ضجيج زلزال نفسي وتشققها، انتظر مترقبا صفاء الجو مصوبًا نظرى تجاه جبل ذنوبى الأعظم، ابتهل إلى الله أن يخسفه، ولكن كيف لمثلي أن تستجاب دعوته وكثير من تفاصيل حياتي مع مايا ما زالت ملتصقة بعقلى وقلبى، رغم أكثر من أحد عشر ألف كيلومتر تفصل بيننا.

ثم ها هو أليخاندرو يأتيني مثخنًا بجراحاته، طالبًا منى النصح، طالبًا المساعدة، يا لسخرية الأقدار، أنا المسربل بالخطيئة صرت قبلة التائبين الغافلين !.

 

إلى لقاء في فصل جديد



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved