خلال مأدبة عشاء مع مجموعة من قادة الفكر منتصف التسعينات، مال بيل ميهان، العضو المنتدب لمكتب ماكينزي آنذاك، أحد أكبر مكاتب الاستشارات العالمية، على الكاتب الأمريكي جيم كولينز وقال معقبًا على أحد كتبه (لا شك أنك أصدرت كتابًا جيدًا، لكنه لسوء الحظ، بلا فائدة). كان كولينز قد نشر وقتها كتابًا عن الشركات العالمية ومستويات أدائها نال رواجًا كبيرًا.
لم يكن سهلاً غض الطرف عن تعليق كهذا، خاصة عندما يصدر عن أحد أفضل مدراء الشركات العالمية. طلب كولينز مزيدًا من التوضيح، فأجابه (الشركات التي كتبت عنها نشأت، في الغالب، كبيرة ورائعة، كان خلفها مؤسسون من أمثال ديفيد باكارد؛ المؤسس المشارك لشركة هيوليت باكارد، أحد أكبر شركات تكنولوجيا المعلومات العالمية، وجورج ميرك، مالك شركة MSD للأدوية. امتلكت جميعها أدوات التميز منذ يومها الأول. اكتب عن شركات بدأت صغيرة وصارت رائعة).
بعد تلك الأمسية، وهذا الحديث العابر، اختمرت في ذهن كولينز فكرة كتابه الجديد، "من جيد إلى رائعGood to Great"، شغلته قدرة شركات صغيرة على تطوير ادائها والانضمام إلى ركب الشركات الرائعة. بلغة الأرقام تمكنت بعض الشركات من تحقيق معدل نمو سنوي يفوق متوسط نمو السوق ثلاث مرات على الأقل.
انكب جيم ومساعدوه يدرسون لعدة شهور، قلبوا فيها الأرقام والمؤشرات، وسياسات الشركات، وحللوا أداءها في البورصة، ومنهجيات إدارة أصولها وسياسات نفاذها إلى الأسواق الجديدة، وكيف عالجت بعض الإصلاحات الطفيفة تدني منحنى الأداء، عندها أدرك كولينز كيف صارت هناك شركات رائعة.
فقد وجد أن عشرة مديرين تنفيذيين من ضمن أحد عشر يديرون شركات رائعة، جاءوا من داخل الشركة، تقلدوا مناصب عدة على فترات متباينة عايشوا فيها العاملين، كانوا أعلم بنقاط الضعف والقوة، فعمدوا إليها مباشرة. لم يحدد لهم مجلس الإدارة آلية بعينها لحثهم على التطوير، كانوا يتحركون بدافع شخصي؛ إنه الولاء.
وفي جانب السياسات والاستراتيجيات، أشارت النتائج إلى تركيز الشركات الرائعة على ما يجب وما لا يجب فعله، عبر محاولات متكررة راوحت بين الصواب والخطأ، واستنتاج الأفكار واختبارها وتقييم نتائجها حتى أثمرت الجهود وتحددت المسارات، وتوالت النجاحات.
كذلك، لم تلعب عمليات الاندماج والاستحواذ دورًا رئيسيًا في إشعال شرارة التحول؛ إذ أن دمج شركتين جيدتين لا يصنع شركة رائعة.
وعلى الرغم من الدور الكبير والمهم للتكنولوجيا في إدارة الشركات، أكدت الدراسات تصدر العنصر البشري، الموظف، لعملية التحول، خاصة عندما تتلاشي مشاكل التحفيز والتغيير للموظفين في ظل بيئة مناسبة وجيدة لنمو الشركة.
الطريف في الأمر، أن كثيرًا من الشركات التى نجحت في التحول لم تنتبه لتغير تصنيفها في حينه، كانت تركز على استمرار النجاح. لكن عندما أظهرت نتائج مراجعة مؤشراتها وتحليل أدائها، أنها حققت قفزات ثورية، راحت تراجع مسيرة صعودها. وقد أثبتت التجربة أن نجاح التحول يرجع إلى وعي المديرين التنفيذين بقراراتهم. فعلى عكس ما توقع كولينز، لم يبدأ المديرون الجدد بوضع استراتيجيات أو رؤى جديدة، فقط اختاروا فريق عمل جيد، ووضعوا الشخص المناسب في المكان المناسب، ونَحَوّ بعيدًا الأشخاص ذوي الكفاءة الأقل، ثم حددوا وجهتهم وانطلقوا. لم يعملوا بمبدأ "الموظفون أعظم أصول الشركات"، إنما "الموظفون (الجيدون) أعظم أصول الشركات".
ومع أن كولينز استخلص أسباب النجاحات الكبرى في مسيرة الشركات الرائعة بعد دراسات شاملة وعميقة، فقد ترك للمديرين التنفيذيين صنع خلطاتهم السرية وِفقًا لخصوصية كل حالة، ولتتعدد الطرق وليبقي الهدف واحد؛ مزيد من النجاحات الرائعة.