راوغت -قدر الإمكان- إلحاح الكتابة عن أفغانستان، فما كُتب ليس بالقليل، ومكتفيًا بمقال نُشر في ذات الزاوية، قبل أسابيع قلائل (حيفا 48 – كابول 21 – بغداد ؟؟)، توقعنا فيه سيطرة طالبان على المشهد بعد ما أحدثه الانسحاب الأمريكي من فراغ. وفي النهاية استسلمت لشغف الإطلال على المشهد من زوايا مختلفة.
فكريًا، علمنا الجورنالجي الأول، الاستاذ محمد حسنين هيكل، النظر في الخريطة قبل القراءة في السياسة، فخلف الخطوط السميكة والرفيعة تكمن الأسرار.
سياسيًا، ذكرتني دهشة المسئولين الأمريكيين من سرعة سيطرة حركة طالبان على مقاليد الأمور، بدهشة الطالب البليد عند إعلان رسوبه في الامتحان. قَصَدَت أمريكا كابول عام 2001، للانتقام من قادة تنظيم القاعدة، على إرسالهم حفنة إرهابيين مرغوا كرامتها في التراب، كان يكفيها عدة أسابيع من العمليات العسكرية المحدودة ثم ترحل في سلام.
جغرافيًا، أغري سهولة السيطرة على البلد الأول عالميًا في الفقر والإرهاب أمريكا بالبقاء متناسية أن دولاً كأفغانستان تحكمها الجغرافيا لا البشر؛ طبيعة جبلية تمتد مئات الكيلومترات، تحمي ساكني كهوفها وتتعطل أمامها المعدات الحربية الحديثة.
أدبيًا، استوحي الكاتب السوداني أمير تاج السر، في روايته توترات القبطي، التاريخ ورسم مدينة خيالية تضم أعراقًا وديانات مختلفة تعيش في سلام تحت ولاية حاكم تركي ضعيف، يجتاحها الثوار المتشددون في نهبهم المسعور في الاتجاهات الأربعة، مع إعلان السيطرة على المدينة تحول المحاسب ميخائيل رجائي القبطي إلى سعد المبروك المسلم طباخ الأمير، الأمير الذي كان يعمل ذات يوم فراشًا في ديوان المحافظة، ثم تبدلت أحواله وتبني أفكارًا دينية متطرفة هجر بعدها المدينة وانضم للمتشددين تحت قيادة المتقي، وبقدر ما أظهر من عنف وهمجية ترقّى وصار أميرًا للجيش.
اجتماعيًا، انقلب حال المدينة بعد احتلالها، يطوف المنادي بطرقاتها وحواريها طوال النهار يذيع قرارات الأمير، مزيد من الممنوعات والقتل والتنكيل، وعلى الجميع اثبات تقواه وأنه تخلص من كل ما له علاقة بماضٍ جاهلي يوجب التطهير والتبرؤ منه في كل قول وعمل.
دينيًا، رغم الزهد البادي في ملابسه المرقعة، وعمامة طويلة (تلحس الرمل)، لم ينس الأمير خميلة عازر خطيبة ميخائيل، بجمالها الآسر وتعليمها العالي، يبحث عنها بين أكوام السبايا، فيما يحاول ميخائيل انقاذها، لتصبح حبيبته الأسيرة رمز الوطن المختطف، بينما يكبر في داخله سؤال عن العلاقة بين تعاليم الإسلام السمحة والسلوك الهمجي للمنتمين له، لماذا القتل والسبي بغير سبب؟.
بعد ما نشر أمير تاج السر روايته سألته قارئة، كتبت في توترات القبطي عن الرجال، فماذا عن الثورة والنساء، فكتب روايته (زهور تأكلها النار)، دَوَنَ فيها وقائع يوميات مدينة ألقاها -باسم الدين- حفنة من الرجال من نافذة التاريخ.
جغرافيًا، تسيطر قوات أحمد شاه مسعود (الابن) والمعارِضة لطالبان على إقليم بانشير في الشمال، نحو 125 كيلومتر شمال العاصمة كابول ويتميز بوعورته الجبلية، كان أحمد شاه (الأب) أحد رموز مقاومة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، وقبل يومين من تفجيرات 11 سبتمبر 2001 اغتاله إرهابيان تخفيا كصحفيين، يعتقد أنهما تابعين لتنظيم القاعدة. ومع هذا ظل الإقليم حتى يومنا هذا خارج سيطرة طالبان.
بعد الانسحاب الأمريكي أعلن الابن رفضه تسليم الإقليم لطالبان، لتعلن طالبان من جانبها حشد مئات الجنود لقتاله.
تري ما الذي ستسفر عنه الأيام القادمة، هل تظل للجغرافيا الكلمة العليا ويحافظ الإقليم على خصوصيته، أم تحتال طالبان، كما احتال لها بن لادن من قبل، وتكسب الجولة القادمة، وتبقى النتيجة واحدة في كلا الحالتين، مزيد من التفتت والتمزق. حفظ الله الوطن.