تُذكرُني رواية "عائد إلى حيفا"، للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، بقصيدة محمود درويش، (طباق)، مُخاطبًا فيها روح صديقه إدوارد سعيد، ("ألم تتسلَّلْ إلى أمس/ حين ذهبتَ إلى البيت/ بيتك في القدس في حارة الطالبيّة؟....."، فيتخيله يرد عليه "هَيَّأْتُ نفسي لأن أتمدَّد في تَخْت أمي/ كما يفعل الطفل حين يخاف أباهُ. وحاولت أن أستعيد ولادةَ نفسي/ وأن أتتبَّعَ درب الحليب على سطح بيتي القديم/ وحاولت أن أتحسَّسَ جِلْدَ الغياب/ ورائحةَ الصيف من ياسمين الحديقة. لكن ضَبْعَ الحقيقة أبعدني عن حنينٍ/ تَلَفَتَ كاللص خلفي").
تشترك كتابات المهَجَرين والمنفيين والمغتربين في قاموس المفردات. في الروح القلقة. في الخوف من الغد، وما الغد ببعيد. عاش إدوارد في أمريكا، ودرس في جامعاتها، وحمل جنسيتها، ولم ينس أنه فلسطيني تعلم في مدارس القاهرة والتحق بكلية فيكتوريا بالإسكندرية، ثم رحل إلى ماساتشوستس بأمريكا لاستكمال دراسته وهو دون السادسة عشرة من عمره، وهناك تخصص في الأدب المقارن ونشر نحو خمسة وعشرين مؤلفًا أشهرها "الاستشراق" حيث تُرجم إلى أكثر من عشرين لغة. حقق إدوارد مكانة أكاديمية مرموقة، وصنفه الكثيرين كثاني أهم شخصية عربية أمريكية، بعد جبران خليل جبران.
على الجانب الإنساني، ارتبط بصداقة قوية مع محمود درويش؛ فإلى جانب الآراء والمواقف الفلسطينية والعربية المشتركة، جمعتهما أيضًا كتابات غسان كنفاني (1936-1972).
في عام 1969 نشر غسان روايته "عائد إلى حيفا". مؤلمة وصادمة. يزور الزوجان العربيان مدينتهما القديمة، حيفا، بعد نحو عشرين عامًا من احتلال اليهود لها، (أبريل 1948)، يسترجعان وقائع هروبهما تحت وطأة القصف والقتل. عادا أملاً في العثور على ابنهما (خلدون)، الذي فقداه في زحام الرحيل. يقصدان بيتهما القديم. يطرقان الباب. تفتح سيدة مسنة. ما إن تقع عيناها عليهما حتى تعرفهما. دلت نظراتهما الملتاعة أنهما أصحاب البيت. يتعارفان. تدعوهما للدخول. أحسا أن أثاث البيت يمد كفه نحوهما ويسلم.
بعد قليل دخل عليهم شاب وسيم حليق الرأس يرتدي زي جيش الدفاع. ما إن قدمت له السيدة والديه الحقيقيين، حتى دار حوار فلسفي عن الوطن، والبنوة، والأبوة، وعن مفردات الحياة.
كانت أمه بالتبني قد أخبرته من قبل بالحقيقة، عن هجرتها مع زوجها إلى أرض الميعاد قادمين من بولونيا. استئجار المنزل من الوكالة اليهودية. تبني الطفل الرضيع، الذي وجدوه بالمنزل بعد هروب والديه. وكيف اختارا اسمه، (دوف). كبر الشاب، وتصالح مع نفسه على هذا.
يقول (... منذ صغري وأنا يهودي. اذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية وآكل الكوشير (الطعام الحلال) وأدرس العبرية...)، ثم يوجه كلامه لأمه بالتبني (أنا لا أعرف أمًا غيرك، أما أبي فقد قتل في سيناء قبل 11 سنة "في حرب 1956"، ولا أعرف غيركما).
ويتهم والده؛ (..... مضت عشرون سنة يا سيدي، ماذا فعلت خلالها كي تسترد ابنك؟ لو كنت مكانك لحملت السلاح.. عاجزون! عاجزون!.. لا تقل لي أنكم امضيتم عشرين سنة تبكون!.. فالدموع لا تسترد المفقودين ولا تصنع المعجزات...).
وأمام هذه الصدمة لا يقوى الزوجان على البقاء، يرحلان للمرة الثانية، مهزومين؛ في الأولي طردهما اليهود، وفي الثانية تكفل ابنهما بالأمر. يرحلان متمنيين لو أن ابنهما -الذي تركاه خلفهما في القدس- انضم إلى كتائب الفدائيين، حتى وإن اضطرته الظروف قتال أخيه خلدون الذي سرقه اليهود بعد ما سرقوا الوطن وصار (دوف).
كم كان غسان قاسيًا، حين يكتب لا يستخدم الورقة والقلم. يستل خنجرًا من خاصرته ويشرع ينقش أحزانه على لحم الوطن.