الفصل الرابع والعشرين
("ما أصعب أن تمسى فى مدينة الحب ملكًا وتصبح صعلوكًا")
(أحببتك منذ رأيتك)،
هكذا بدأت مايا حكيها، أو بالأحرى، اعترافاتها، جالسًا أتقلى على جمر الانتظار، تقرقش الثوانى والدقائق عظامى وتمتص دمى وتسحق خلاياى، وخز إبر الانتظار على قارعة المجهول، تسافر شظايا التوتر محملة بالشجن والألم، كعادتها لم تغير لحظات القلق والترقب جيناتها السخيفة، توارَثَتْها جيلاً بعد جيل، لم تفلح محاولات تهجينها ببعض كروموزومات الاسترخاء، ظلت عصية على الاتحاد؛ تلفظ ما يغير صفاتها الوراثية، ثقيلة لا تنـزاح، شرهة لمحفزات الاكتئاب والحزن والمشاعر السلبية، أخاديد عميقة بلا قرار، جبل صوان أصم صبغه الصمت بلون أسود داكن، محيط خَرَسْ راكد متعطن تمرح فيه مراكب الهواجس والشكوك.
تجلس أمامى كما اعتادت أمها الجلوس بين يدى قس اعترافاتها، تبوح بين يديه بما لا تبوح به لابنتها وزوجها اللذين عجزت عن إخضاعهما لإطار الدين، تُرى لو كانت ما ورثته مايا من جينات أمها يفوق ما ورثته عن أبيها، كيف تصبح قصتنا معًا، (الدين واحد لكن فهمنا له هو المختلف)، لا أدرى أين قرأت هذه العبارة؛ باسم الدين نعفو، وباسمه أيضا نُعاقب.
جَلستُ انتظر تفسيراتها، اتلهف لما ستقوله وما لن تقوله؛ أترقب قطرات بوحها، تائه مشوش بين الوهم والحقيقة، بين الخيط الأبيض والخيط والأسود، أفرك عينيى مبتهلاً أن يمنحنى الله قوة كشف أميز بها الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شئ سوى الحقيقة.
إيه يا امرأة أعرف كل حالاتها؛ هدوئها وصخبها، ضحكها وبكائها، رضاها وعنادها، حبها وكرهها، صفوها وغيومها. إيه يا امرأة امتلكتُ مفردات شفرتها وسلمتنى راضية القسم الممنوع من الإطلاع والنشر محاطًا بشرائط وردية. إيه يا امرأة سلمتنى مفتاح مدينتها، وسقتنى خمر عينيها ونصبتنى ملكًا، ونمت هانئًا عند أقدام عرشها. إيه يا امرأة أفقت من سَكرَتها فوجدتنى إِمَامَ طابور البائسين؛ ما أصعب أن تمسى في مدينة الحب ملكًا وتصبح صعلوكًا.
لا تعرف مملكة الحب القوانين؛ ذات مؤهلات التنصيب سلطانًا لمدينة العاشقين تجعل منك في الصباح صعلوكًا في قوافل المشردين، تتطلع في حسرة إلى عرشك المُنَكَس. بقلبها تضع مدينة الحب دستورها المقدس، وبعقلها تلقى به في أقرب صندوق نفايات.
أنظر نحو مايا نظرة محقق بارد، بينما تضج رأسى بصراع بين شخصين متضادين في الفكر، الأول نصب نفسه قاضيًا وجلادًا، وصار الآخر متهمًا يدافع عن نفسه، وكان هذا الحوار بينهما،
- بأى حق تسألها عن الحقيقة؟، أليسا زوجين يمارسان حقوقهما المشروعة ؟
- لكنها أخطأت في حقى ؟
- وأنت. ألم تخطئ في حقها وإنسانيتها ؟
- .......
- هل تنكر ما عشته معها من سعادة ؟
- أو تكفى السعادة مبررًا لتخدعنى ؟
- لم تخدعك !
- وكيف عرفت ؟
- كنت تتلهف عليها، تنتظرها في صحوك ونومك، وحين تفترسك الوحدة بأنيابها كنت تتطلع مشغوفًا نحو باب الشقة، تتلهف إلى رنة الجرس وتكة الكالون وإقبالها البهيج
- بسبب الوحدة لا أكثر
- لا أكثر؟، ألم تكظم غيظك ذات مرة حين رن الجرس ووجدته عامل البقالة يقف حاملاً بعض ما أمليته من طلبات أو الكواء ناشرًا ملابسك النظيفة -التى سلمته إياها- على ذراعيه؟، فهبطت من ذُرى جبال الفرح إلى حضيض اليأس
- ماضٍ وانتهى !
- ماضٍ وانتهى ؟
- نعم، انتهى ودفعت من دمى الثمن
- لا، فإن كانت أخطأت في حقك، فقد سبقتها أنت بالإساءة إلى نفسك
- كيف ؟
- حين أغمضت عينيك عن الحقيقة وتجاهلت قوانين الجغرافيا وقواعد الطقس وسنن الفصول. حين أبحرت معها وفيها. حين تغافلت وتشاغلت وتناسيت وبررت وأدعيت وتسترت. حين سولت لك نفسك كل ما يضمن استمرار علاقتكما ويطمئنك لدوام اقترابها.
- .......
- أطفأت بها ظمأك وسنوات عجاف جُبت فيها فيافي الحياة على ظهر ناقة الوحدة حتى استقر مقامك بعد تيه طويل من صحراء إلى صحراء، ومن هجير إلى رمضاء
- جرحتنى وأدمتنى وصلبتنى على بوابات عشقها
- لا، بل أنت من رشقها خنجرًا في الخاصرة واستملحت وخزات الألم وانحنائك بها في حلك وترحالك متمنيا أن تطول حكاياتكما
- صدقتها في كل ما قالت وما لم تقل !
- لا، أتنكر ما اخترعت من أسباب لتطول قصتكما، حتى تصورت أن وجودك في حياتها جاء قدرًا لتعويضها عن إهمال زوجها لها، ظننت أنك الرحمة والبلسم، وأنت العذاب والشقاء
- كانت حياتها قبلى باردة، بلا معنى ولا هدف
يرد الآخر بسخرية متسائلاً،
- ثم جئت لتعطيها المعنى والهدف ؟؟
- أتنكر ما كان من تبعات مقابلتها زوجها وصديقته الآسيوية معًا في أبو ظبى
- لا أُنكر، كما لا أُنكر ثقتك في غريزتها كامرأة تُلقى كل ما تعلمته في أرقى الجامعات وما مارسته من عمل في أرفع المنظمات خلف ظهرها لتعود بين يديك إلى طبيعتها الأولى، نسخة من حواء حين مشت على ظهر هذا الكوكب للمرة الأولى، أنثى ليس أكثر. أنت السبب فيما صارت إليه !
- لا، لا، لقد حولتنى من ضحية لمتهم
- هذه هى الحقيقة
- لا، لا !
- ضحية
- متهم
- ضحية
- لا، بل متهم
- ...
يا إلهى، أكاد أُجن ولا أدرى ماذا أفعل، أكان كل ما بيننا سراب. ألم تتصل بى من مطار أبو ظبى منهارة، فكتبنا في تلك الليلة أول حروف العشق الحرام في دفتر الآلام، وحفرنا فيها أول ذكرياتنا الخاصة، خمشنا بأظافر حرماننا ينابيع الرِى ومشطنا حقول الشبع، غصنا في البحر وحلقنا في الجو وعدونا في صحارى لم تطأها قدم بشر قبلنا، وقطفنا ثمار أشجار لن يذوقها بشر بعدنا.
سقط آخر جدار بيننا، وآخر ورقة توت تستر خجلنا، هل كان ما عشته خيال ووهم أزرع فيه مع كل يوم بذرة في حدائق الشيطان نرويها بأكاذيبنا، ويوما بعد يوم، وليلة بعد أخرى صارت غابة من أشجار السنط والصبار، تزينها الأشواك، ونجنى ثمارها متغافلين حتى تسربلنا بدم الدنس.
كيف تلهو بي وأنا الذى أعرف كل تفاصيلها؛ ملابسها، ألوانها، أذواقها، متى اشترتها، ومن أى محل، وفى أى مناسبة، عطورها المعتقة بالشهوة والإغراء، أعرف تدين أمها وشك أبيها، أعرف مواعيد دروس ابنتها، حتى شكاواها المتكررة من مُدرسة الرياضيات أعرفها، كما أعرف خادمتها ومن خدم قبلها، وأى طعام تُحسن طهيه وأى أعمال منزلية تجيد، أعرف وأعرف وأعرف، توحدتَ فيها.
وها أنذا أقف مبتلا بالخطيئة مذهولاً لا أعرف حقيقة من كذب، منكس الرأس، متهدل الكتفين، يتساقط من شعرى وملابسى قطرات الخزى والندم منتظرًا لحظة الحكم، كل ما سينطق به القاضى مقبول، لا استئناف ولا طعن على أحكام، إقرار تام بالذنب، من فمه إلى منصة التنفيذ مباشرة؛ لا خيارات، لا توسلات، لا استثناءات، فات الأوان.
أى حكم أهون من رصاص الانتظار، أى قرار أرحم من عذاب القلق، يُقتل المتهم ألف مرة قبل نطق الحكم، حتى لو كان بريئًا، لأقل الأسباب تدان، تسير على خط يفصل بين عالمين؛ جنة ونار، تمامًا كما جلست منتظرًا خروجها من الغرفة لتكشف لى عن الحقيقة، تميط اللثام، وتكشف المخبوء، وترفع السُتُر، حينها تؤوب الطيور لأوكارها، وتنتظم النجوم في أفلاكها والكواكب في مجراتها، ويستقر المطر في غيماته، ويستكين الماء في بحيراته.
رغبة ألا أكون قد عشت وهمًا، تمنيت خروجها من الغرفة مندفعة تجاه صدرى تبكى وتنتحب وتطلب المغفرة والعفو مقسمة أنها لم تحب غيرى، وأن زواجها تم قبل بدء التقويم وخارج حدود الزمن، بى بدء تقويمها وعرفت سنواتها معى تتابع الفصول، أمطرت في الشتاء، وأزهرت في الربيع، وأشرقت في الصيف، وغامت في الخريف، وصار لعقارب الساعة هدفٌ واحدٌ تدور من أجله في الاتجاهين، مع الزمن وضد الزمن، تتفتح سنابلها في ربيع قربنا، وتشكو هجير صيف بُعادنا، وتسقط أوراق الشجر في خريف ليالينا، وترعد السحب وتُبرِق في شتاءات خِصامنا.
جلست انتظرها في غرفة الاستقبال تتقاذفنى أفكار سوداوية تكفى كل منها لقصف استقرارى من قواعده الراسخة، أفكر من أين ستبدأ سردها، من أى نقطة ستتحرك، أى المساحات تبدو أكثر ضعفًا، وأيها الأكثر إلحاحا فتنفجر منها، ثم طردت الفكرة، لا يهمنى من أين تبدأ، المهم أن تبدأ وألا تقف في مرحلة التساؤل كما يقف عبد الحليم حافظ منذ أكثر من أربعين عامًا يتسائل متغنيا بكلمات الشاعر محمد حمزة (نبتدى منين الحكاية)، يا سيدى لا يهمنى من أين نبدأ، صارت حكايتنا خُراج يتفاقم مع الوقت، لا يهم في أى نقطة يضرب الجراح مِشَرطه، المهم أن يشرع في العمل.
جلست مقاطعا ساقاى تتأرجح العليا في توتر ظاهر، أبدل بينهما،؛ مرة تعلو اليمنى وتنخفض اليسرى ومرة ترتفع اليسرى وتنخفض اليمنى، عاقدًا ذراعاي على صدرى، أخيرًا فُتح الباب وخرجت، لم انتبه من قبل أنها أغلقته وهي التي ما أغلقته من قبل، لم يكن هناك ما يدعونا للإحساس بالغربة أو الحرج فيما بيننا؛ نزل ستار شفاف يفصل بيننا فأغلقت الباب بعفوية، ربما لم تنتبه لما جَدَ بيننا، من كان يصدق أن يحدث هذا، يأتينى صدى صوتها من موقف بعيد بُعد أيامنا الجميلة،
- حياتى دخيلك ناولنى البشكير
- وينه
- ع التخت (السرير)
- عيونى
- ....
وواربت باب الحمام ومددت يدى لأعلق البشكير على المشجب المجاور، جائنى صوتها من تحت الدش (تسلم حياتى)، بعد قليل خرجت مبللة الشعر حافية القدمين وعلى وجهها أثر حمام دافئ ثم انكمشت إلى جوارى على الفوتية طاوية ساقيها تحتها مُهيأة نفسها لتناول قهوتها وبعض قطع كيك الشيكولاته، حلت الفوطة فانفرط شعرها، هزت رأسها يمينًا ويسارا لتنفض عنه الماء، خللته بأصابعها العاجية، ثم استقرت في اتكائها استقرار حورية البحر الصغيرة على صخرة مرفأ كوبنهاجن بالدنمرك وراحت تتناول قهوتها.
بدا البشكير رطبا وجسدها لدنا، سهرنا معًا ثم رحلت قبيل منتصف الليل بقليل، تاركة بشكيرها يحكى أسرارنا. مضى زمن أمثال تلك اللحظات وصرنا نشعر بالغربة متى جمعنا مكان واحد؛ نوصد أبواب الغرف ونجلس متباعدين كغريبين؛ ومثلما كنا نقترب بعفوية وتلقائية، صرنا نبتعد بذات الوتيرة.
خَرَجت من الغرفة بخطوات متثاقلة، بدا وجهها أكثر شحوبًا، جلست على الأريكة المقابلة تفرك كفيها وتعد على أصابعها، كعادتها، وتحدث نفسها بهمس غير مسموع، نظرت إليها بوجه محايد، ما عاد في قوس الصبر مَنزع، أكل الانتظار عقلى وهيج هواجسى وظنونى، مع كل نقلة لعقرب ثوانى ساعة الحائط، المعلقة في غرفة الاستقبال، تهوى مطارق الانتظار على رأسى، كم مرة هممت باستبدالها بساعة رقمية لا يصدر عنها صوت كى لا أحس معها بحركة الزمن البغيضة، وكالعادة أنسى وأنشغل، هل تعمد صانعو الساعات القديمة تنبيهنا لمرور الزمن وتسلله من قبضتنا ومن بين أسناننا بهذه الدقات العصبية، ربما.
تململت في جلستى أكثر من مرة حاثا إياها على الحديث، وعندما طال الصمت أكثر مما احتمل قلت لها، "تفضلى ... سامعك"، رفعت رأسها ببطء وتطلعت نحوى كأنما تطل من عالم آخر، عالم تعيشه في الخيال أكثر من الواقع تخترع أبطاله وقصصه، تصنعهم حسب رغباتها وميولها ومزاجها.
(أحببتك منذ رأيتك)،
أول ضربة مشرط صَوبَتها في كبد خُراج البوح وأول شِق في خزان الحكى الخشبى، للتطهر عذاباته ولكن ما باليد حيلة، سكن الجسد الحمى وتفشى الصديد، بالأمس كان القلب وحده موضع الألم، اليوم ضرب القيح سائر الأعضاء وما أبقى عليها؛ انتهك خصوصياتها، ونخر العظم.
(أحببتك منذ رأيتك)،
أول قطرة في غيث سردها، قطرة خلف قطرة، رذاذ خفيف ما لبث أن صار غيثا، مُثقلة مُزنها بمخاض الاعتراف، تفاجئنى خلف كل كلمة حقيقة جديدة، وربما كارثة جديدة تؤكد أنى كنت أعيش وهمًا كبيرًا، تشبثًا منى بأوهامى أو ربما لعدم تصديق ما أسمع قاطعتها ضاحكًا (عم تمزحي، مُش هيك؟)، نظرت نحوي بوجه كسيف وهزت رأسها أن لا، أخيرًا سقط السِتر عن الخبيئة وانكشفت الحقيقة وتبدد الحلم الجميل، قُوض بيت العنكبوت، حطامٌ مهلهلٌ يشهد كل خيط فيه عن خيباتى وانكساراتى.
بعد فشل قصة حبها مع رانى وتلقيها رسالة منه لا تزيد عن سطر واحد (عزيزتى مايا .. اعتذر منك .. اتمنى لك حياة أفضل مع رجل غيرى .. رانى )، انهارت وكادت تفقد عقلها، وأقدمت على الانتحار وأنقذها أبوها في اللحظات الأخيرة، كان هذا هو الشطر الذى عرفته من القصة، أخبرتنى به بين كلام عارض عن ماضيها على هامش حديثنا عما نمر به من تجارب.
لكن الشطر الثانى من القصة، والذى لم تحكه من قبل أن الأطباء نجحوا في إنقاذ جسدها لكن نفسيتها احتاجت علاجًا طويلاً؛ كابدت فيه وأسرتها آلام عذابات قاسية، تنتابها حالات بكاء هيستيرى وخوف من المجهول ورغبة شديدة للتخلص من حياتها، رافقتها أمها ليل نهار؛ تنام إلى جوارها، وتتنصت عليها إن طال مكوثها في دورة المياه، كانت تعلم أن ابنتها على شفا الهاوية وأنها يمكن أن تفقدها في أية لحظة، تبادلا مراقبتها؛ هى وأباها، مع اتصالات شبه يومية من عمتها؛ الأقرب إليها، شَخَصَ الأطباء حالتها بانفصام في الشخصية، تتخيل أحداثًا وتخترع شخصيات، تعيش في عالم وهمى، تحبه أحيانًا وتخاف منه كثيرًا مع حب للوحدة وعزوف عن المخالطة، احتاج علاجها حوالى سنة. كانت تتعافى ببطء يزيد معه حبها للحياة، وصل إلى أوجه بزيارة عمتها في كندا لتعود من عندها كأنما ولدت من جديد.
مرت سنوات الجامعة مليئة بالأمل والتفاؤل تعمدت فيها تجنب الحب؛ صدت زملاءها واحدًا تلو آخر، وتجاهلت تلميحات الكثيرين، فضلت العيش وحيدة مع تجنب تكرار مأساتها مع رانى، سيطر عليها هاجس تلقى رسالة قصيرة أخرى تدمر قصة حب جديدة قد تعيشها.
أمام هذا الهاجس عاودتها حالة الفصام ثانية ولكن بمستوى أقل تطلب علاجًا أبسط عن ذى قبل وإن خَلَفَ أعراضًا تراودها من حين لآخر، بحسب حالتها النفسية، ترتفع إذا تعرضت لضغوط؛ لم يكن عَدَها على أصابع يديها، وضم كفها الأيمن والقبض عليه بيسراها فيما تتحرك شفتاها في صمت تحدث نفسها بهمس غير مسموع وترسم أشكالاً في الفراغ بيديها سوى أعراض فصام، ما ظننته ظواهر عابرة كان جبل جليد يخفى مأساة في الأعماق.
ومع ذلك، نجحت في مراحل حياتها التالية في مدارة توترها والموائمة بينه وبين علاقاتها مع الآخرين، غلب إصرارها وحبها للحياة على مرضها، وإن بدا صعب المراس؛ تعقب حين يفاجئها زملاءها على هذه الحالة بأنها تلازمها متى اندمجت في عملها، فصاروا لا يخرجونها من شرنقتها الوهمية إلا لضرورة، ينبهونها بطرق خفيف على الباب أو المكتب، فإذا ما انتبهت إلى وجودهم ابتسمت وابتسموا، ومضت حياتها على هذه الوتيرة، تبتسم لأصدقائها في الظاهر، وتبكى آلامها في الباطن.
بسفر زوجها إلى أبو ظبى توترت حالتها توترًا شديدًا، كان مضطرًا للسفر؛ ليس زهدا فيها، ولا هروبًا من حياة عائلية شبه ميتة، إنما لظروف عمل لا يستطيع رفضها أو إرجاءها، ساءت نفسيتها ووصلت إلى أدنى حالاتها، هموم عمل ووحدة وابنة ترعاها ووالدان يحتاجان رعايتها نهاية الأسبوع، أصابها شيء من اكتئاب كادت تذوى معه، شهور طويلة مرت عليها وحالتها تتدهور رغم المتابعة مع الطبيب، كانت بين نارين؛ اللحاق بزوجها مع ترك العمل والتفريط فيما يصعب تعويضه أو عودة زوجها واستقالته من عمله، ظل الحال بينهما يتأرجح؛ يكرران نفس الكلام في أحاديثهما التليفونية ولا يصلان إلى نتيجة لتمضى حياتهما على أرجوحة اليأس والرجاء وارتفعت معها معدلات تكرار أعراضها، تمتمة كالهمس ورسم في الهواء.
جاء لقائنا الأول وفى داخلها جُرح عميق وفجوة تتسع ولا تضيق، بلغت مداها بإقدامها على بعض الأفعال دون تمام وعى، ثم اجتمعنا على هامش الترتيب والتنسيق لورشة عمل مراكش، لسبب أو لآخر، حدث تقارب وتجاذب بيننا، وجدت في ما يمكن أن ترتاح إليه، رجل شرقى لا توحى ملامحه بسابق تجارب، ووجدت فيها عِوَضًا عن جانب اجتماعى فقدته بانفصالى عن غادة، وعزاءً عن وحدتى.
ومع كل إشراقة شمس راحت علاقتنا تتطور وتمتد أشعتها وضياءها لمساحات جديدة، تقوي روابطها وتُزال حدودها وإن بقيت العلاقة ضمن إطار متحفظ بعض الشئ حتى جاءت ندوة الدكتور جون ستيوارت عن (قوة التغيير) في فندق الموفينبيك لتلقى في بحيرات وحدتنا الراكدة سؤالاً كبيرًا، لماذا لا نتقارب أكثر، لماذا نقف متقابلين على الضفتين وفى داخل كل منا ميل شديد للآخر، ما الذى ننتظره، فلنلق بأنفسنا في النهر.
تمنت ليلتها لو أننا قضينا بعض الوقت معًا، لكننى لم أُقدم ولم أبادر جهرًا أو تلميحًا، كالعادة كبت نزواتى وألقيت رغباتى في سلة التجاهل قابضًا على جمر عاطفةٍ مشبوبةٍ تشوى صدرى وضلوعى في صمت اتقنت معه إخفاء مراجل الثورة في داخلى، وألا يكشف السِتر. أَلـمَحَت ونَوَهَت لكننى وكالعادة كنت على الضفة الأخرى احترق في هدوء، يظن الكثيرون وهجنا تألقًا غير منتبهين إلى انصهارنا كالشمع، في ذلك الوقت كانت تصارع داخليًا لتهزم هواجسها النفسية بمفردها.
كنا نقترب بهدوء غير متجانفين لإثم حتى سافرت إلى أبو ظبى وكانت في قمة تعبها النفسى؛ أوصلها زوجها إلى المطار وودعها بعد ما قضت معه أسبوع تخللته بعض أيام عمل، لكنها، وفى صالة الانتظار بالمطار هاجمتها الوساوس دون هوادة، ازدردت حبتى مهدئ لتكبح جماح فوران صدرها؛ تلبستها الأوهام، وبدون وعى أخرجت هاتفها واتصلت بى، لم تدرك ما تقول، ووجدت نفسها تتكلم وتبكى، وفى الطائرة افترستها هواجس الوحدة وغياب إيلى، فما أن رأتنى حتى انهارت.
كانت خائفة من العودة لبيتها، وخائفة أن يعاودها المرض، ثم حدث ما حدث وتتالت الأحداث ككرة ثلج تندفع بالقصور الذاتى بأقصى سرعة وفى نفس الوقت تكبر وتنمو في كل لحظة لتأخذ بعدها أبعادًا لم تتوقعها هى ولا توقعتها أنا، حتى بعد ما تحسنت صحتها كانت لديها رغبة داخلية ملحة لاستمرار علاقتنا، تحول الميل تحت وطأة المرض إلى حب عارم، حب حقيقى، فصارت بين نارين وفائها لزوج وحبها لرجل آخر، لتعانى وطأة ضغوط جديدة، وكأن حياتها سلسلة متعاقبة من الأزمات، تنجو من واحدة لتقع تحت أسر أزمة جديدة، حدث كل هذا وأنا غير واع ولا منتبه لتغيراتها تلك، وإن شئت الدقة، ولا لما حل بى أنا من تغيرات، لأوقن أننا، معًا، نحتاج إلى معجزة وأن بقاءنا في ذات المدينة صار مستحيلا.
رحت اعاتب وألوم نفسي، لماذا نزلت بيروت، ما كان أحراني بالسفر إلى مدينة أخرى، ولماذا لم اكتف بشلة الكورنيش، لماذا لم اكتفي بمناغشات سعيد، وصباحات شفيق، وحدة سيداني، وابتسامات ميشيل، وتلميحات نضال، وتتابعت ألف لماذا دون هوادة أو رحمة، وما من إجابة.
إلى لقاء في فصل جديد