آخبار عاجل

رواية مايا بقلم د: محمد مصطفي الخياط

25 - 10 - 2021 1:13 581

الفصل الخامس والعشرين
("أَلاَ تعلو الفروع وهى تعلم أنها تعاند الجاذبية والجذور")

 
كنست مايا سراديب أسرارها؛ لم تخف شيئا، قالت مُنهيةً حديثها
-    حبيتك من كل قلبى .. قديش تمنيت إنى ما عشت حياتي قبل ما بنلتقي .. تجاوزت أزمتى الأولى وصارت مشاعرى حب خالص إلك وحدك
عقبت بهدوء،
-    لكنه للأسف حبٌ ممزوجٌ بالمأساة
-    ......
أرشدنا البوح إلى ما لم تتوقعه هى ولا توقعته أنا؛ تملكها الفصام وسيطر عليها وعلى تصرفاتها جميعًا، كانت تجد نفسها في أماكن لا تعرف عنها شيئًا، ولا تعرف كيف جاءتها، تتملكها النوبة فإذا هى في حال غير الحال؛ تتصرف دون حواجز ولا اعتبارات اجتماعية ولا وظيفية، كائن آخر يتحرك بضوابط لا تمت لحياته الحقيقية بصلة.

بناءً على نصيحة طبيبها المعالج، دست في علبة سجائرها الذهبية قصاصة ورق كتبت فيها (مريضة فصام ... وربما أقدمت على بعض الأعمال دون وعى)، حتى إذا ما أتتها النوبة وأرادت التدخين قرأت الورقة فتتنبه وتفيق. إلا أن هذه الحيلة لم تفلح معها، كانت تقرأ الورقة وهي في حالتها الغريبة فلا تفهم مغزاها، ولا كيف دُست في علبة سجائرها، فتمزقها وتلقيها في أقرب صندوق نفايات، أو تتسلى بمرآها تحترق بنار ولاعتها، أو تحرق أجزاء منها بنار سيجارتها. 

وعندما كانت تؤوب من نوبتها، تعيد كتابة القصاصة بينما دموعها تهطل ألمًا. كتبتها مرات ومرات، وأحرقتها ومزقتها بعدد ما كتبت، ومع هذا كانت حريصة على معاودة كتابتها، كانت على يقين أن الله معها، وأنه لن يخذلها، فقط عليها ان تنتبه في المرة التالية، والمرة التالية لا تأتي أبدًا.
كم مرة سقطت تلك القصاصة ونحن معًا، ورغم الفضول لم تزد استفساراتى عن أسئلة عفوية عابرة جاءت إجاباتها عنها بين جد وهزل نُحول بعدها دفة الحديث إلى موضوعات أخرى، كيف لم انتبه لذلك، لو تيسر لى قرائتها ولو مرة واحدة فقط لما وصل بنا الحال إلى ما نحن عليه الآن.
تُداهمها النوبة فتجد نفسها ترن باب شقتى ثم تُعمِل المفتاح في الباب وتدخل كأنه بيتها، تجمع الملابس المبعثرة، وتُشغل غسالة الأطباق، وتطلب الكواء والبقال، وفيما هى تتحرك في كل هذا لا تكف عن لومى وتعنيفى على إهمالى وقلة نظامى، تتحرك في البيت بحريتها وتتعامل معى كزوج، وكم من مرة أفاقت فيها من نوبتها وهى في الشقة؛ ربما تكون في المطبخ تعد طعامًا أو قهوة، وربما في دورة المياه، وأحيانًا وهى إلى جوارى، تنظر ذاهلة إلى نفسها وتُصلح لبسها وحالها؛ تنهض بهدوء وتذرف دموعها في صمت، ثم ترتدى ملابسها وترحل وفى داخلها عزم ألا تعود مرة أخرى، لكنها لم تكن تُفيق إلا وهى، في المرة التالية، في الشقة دون وعى أو إدراك.
صارحت طبيبها بما يحدث دون أن تخبره باسمى، قالت له صديق قديم، كانت تحكى له وهى تبكى حالها، طلب منها المرور عليه مرتين أسبوعيا بدلاً من مرة، وغير وبدل الأدوية بأخرى، حاول أن يعرف منها تفاصيل أكثر عنى فراوغت، وأخبرها بضرورة مقابلته لى وأننى جزء من العلاج، لكنها كانت دائمًا تثور وترفض، من جهة كي يستمر حبنا، ومن جهة أخري كانت تخجل من مرضها، تراه أمرًا خاصًا بها، لم ترغب أن يعرف أحد عنها أى شئ، وأن يحتفظ الآخرون بصورتها التى رسمتها لهم، إمرأة جميلة، ذات حضور طاغ؛ مثقفة، متعلمة، متزوجة، وعندما ألح عليها هددته أنها ستوقف جلسات العلاج، فيهز رأسه يائسًا مستسلمًا متوقعًا مع زيارتها القادمة مزيدًا من السقطات والهنات. 
زلزلها الفراغ العاطفى فألقت بنفسها في بحرى؛ أغلق المرض عينيها رغم أنفها، وأغمضت أنا عينيى بإرادتى، عشنا في الظلام؛ هى ظلام المرض وأنا ظلام الغفلة، حتى عندما بدأت حالتها تتحسن كانت تخشى إن بَعُدَت أن تنتكس حالتها وتعود لسابق معاناتها، فصارت ترى في استمرار علاقتنا شاطئ أمان.
حاول معها الطبيب التخفيف من روابط علاقتنا اعتمادًا على عامل الوقت؛ أن أتحرك من بؤرة اهتمامها إلى الهامش، ركز على استعادة حيوية علاقتها بزوجها عبر التواصل التليفونى اليومى ومكالمات الفيديو، لكنها وفى أثناء المكالمات والتواصل كانت تعلم أنه بعيد وأنها حين تمد ذراعيها، قدر استطاعتها، تتحسس فراشها ليلاً لن تجده إلى جوارها، فيتملكها رهاب الخوف والقلق، فما تنهى المكالمة معه إلا وتتصل بى، كنت أنا الحقيقة في حياتها وهو الظل، أنا الواقع وهو الخيال، أنا الحاضر جسدًا وصوتًا وهو الغائب، اكتشفت أن نوباتها تخف وتتباعد كلما كثرت لقاءاتنا، فألقت بنفسها في محيطاتى وأنهارى متفادية، كما تفاديت أنا، أن تسأل نفسها متى تصل للشاطئ؟.
وجدنا أنفسنا أمام حب حقيقى لا يستطيع تمييز ما حوله من عوائق، تصرفنا كحبيبين يتلهف كل منا للقاء الآخر، كثيرا ما قالت تعقيبًا على انشغالى ببعض الأعمال والاجتماعات،
-    بعدك بيني وبينك إشي كام متر، وما بعرف أشوفك أو احكى معك !
ثم تردف متسائلة،
-    قديش غريبة هاى الدنى ؟
كانت دورات عصبيتها تكَثُر عندما تقل لقاءاتنا أو تتباعد، فيما ظننت أن الحب يحركها ويدفعها نحوى، لم انتبه إلى أنه الفصام يقلب كيانها ما صارت وحيدة بائسة. 
يرتفع مستوى الأدرنالين إلى حده الأقصى ويصل قلقها وتوترها إلى مداهما الأخير؛ تضرب رأسها مطارق الفراق والوحدة والضياع، تغشاها كآبة وهموم لا تعرف مصدرها وتأخذ عليها نفسها، ربما استمرت لأيام أو ساعات، فيكثر سرحانها والعد على أصابعها ورسم أشكال وهمية في الفراغ، وأحيانا ارتفاع صوتها فجأة كأنها تخاطب شخصا ما، أحيانًا تفيق وهي معي فترتمى على صدرى باكية، وأنا ذاهل عن أسبابها أجاهد لتهدئتها.
بعد ما باحت لى بأسرارها وكنست صندوق خبيئتها رأيتنى مسخًا؛ خليط من أكاذيب وصدق، خير وشر، سمو وانحطاط، فَعَلت ما فَعَلَت تحت تأثير مرضها، فيما تماديت معها واعيًا. 
فى أى ضفة يمكن أن أضع نفسى، قبل بوحها كنت ألومها، فكيف لى بإصدار حكم بالإدانة عليها، رنت في أذنى كلمات السيد المسيح (من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر)؛ فلم يمسها أحد ولا المسيح نفسه بسوء، أضع نفسي مكان سيدة الخطيئة قبل انحنائى على الأرض لألتقط حجرًا أرمى به مايا.
مصلوبا على بوابة الحقيقة يتوج رأسى إكليل شوك ضفرته بنزقى وجنونى؛ يسيل دم اعترافاتى حتف أنفى، تصرخ حواسي وتفضحنى، تسقط عنى مسوح القديسين، يرجمنى السيارة في غدوهم ورواحهم، فإذا بى في المساء (وما بجسمى موضع إلا وفيه ضربة بحجر، أو رمية بعين، أو طعنة بأذى)، تفتك بى عذابات الندم.
سأجدف قدر طاقتى سعيا لإخراج قاربى من محيطات التعب وأملا في تفادى أمواج الألم، ورذاذ العتاب والشجن. إيه أيتها النفس المتعبة، فلتتمددي على شاطئ الأمل وتتحممى بشمس الرجاء، فغدا لابد قادم يحمل مغفرة الإله.
إلى لقاء في فصل جديد

 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved