الفصل الثامن والعشرين
("آن للترجمة أن تقوم بدورها الإنسانى ")
يا إلهى، أى عبث أعيش، لا تكف الأيام عن الدوران ولا يمل التاريخ إعادة مشاهده بنفس تفاصيلها، مسرحية مملة مكررة، أكاد أتقيأ حين أقف مستسلمًا بلا حول ولا قوة أمام تكرار الفصول واختلاف التواريخ والشخوص؛ تركت بيروت هربا من ذاتي قبل رغبتى الخلاص من حب مايا، نزلت سانتياجو ملوثًا بذنوبى وآثامى، مسربلاً برداء الخطيئة، معتزلاً العالم بحثًا عن توبة وخلاص، نَفَرتَ إلى أقصى الأرض هربًا من شرورى وآثامى، جعلت من سانتياجو أرض ميعاد وخلاص، فإذا بهم يظنونى شيخًا أو قديسًا، يتوسل إلىّْ أليخاندرو لأصلح بينه وبين زوجته التى اكتشفت خيانته لها، آه لو علمت سانتانا أن من يحدثها حرض بأفعاله زوجة على خيانة زوجها، وأن من دق بابها ليُصلح ليس سوى شيطان عاث في الأرض فسادًا قدر استطاعته وبكل ما أوتى من قوة وحيلة.
أهى أقدارنا تحاصرنا أينما ذهبنا، أم ثمار أعمالنا نجنيها في مواسم الحصاد. ثمار مُرٍ وحنظل. ألم يخبر الحكيم الملك حين سأله كيف لى أن أعرف المستقبل، فأجابه هادئًا، المستقبل حصاد عمل اليوم يا سيدى فانظر ماذا تزرع.
حافى القدمين أسير وحدى في أرضى البور الممتدة بطول العمر، تشقق طينها راسمًا خيباتى، وتعفنت بذورها بعد ما انتفخت بالماء الآسن وتشقق لحائها، لا ظل التمس ولا ونيس أرتجى، على أن أُكمل الطريق وحدى، عقابًا أبديًا، وأن أرحل من مدينة إلى أخرى مع كل خطيئة جديدة.
أُقدر على أن أحيا في هذا الموات والشتات عاجزًا عن شق شرنقة الحيرة، ألقيت بنفسى في أبعد نقطة يمكننى الوصول إليها، تعلقت بطائر رُخ البعاد غير عابئ أين يلقينى من علياءه، ولا أين أحط قدمى ولا كيف يكون مصيرى، مهمومًا باقتلاع جذورى، حتى وإن هَلَكْت؛ من بيروت وفضاءاتها، تركت مايا وأصدقائى، ألقيت حصاد سنوات طويلة في سلة الفشل الاجتماعى، لم أحظ بيوم راحة منذ آخر مرة تكاشفنا فيها أنا ومايا، الحقيقة الوحيدة كانت استحالة بقائنا في ذات الجغرافيا معًا، كنا سننتظر قليلاً أو كثيرًا حتى تبرد آلامنا لنعاود، من جديد، وصل ما قطعناه، ضعفًا بحثت عن أبعد مكان يمكن أن أنسى فيه الماضى ورحلت متناسيًا أننى أحمله تحت جلدى، وفى خلاياى وعظامى وذاكرتى وحمضى النووى.
من بين كل الخيارات الممكنة فضلت سانتياجو تشيلى، كانت الأبعد عن بيروت؛ وضعت معيار الأبعد أفضل، الأبعد يَجُبْ الأقرب، انتهت الأوراق في زمن قياسى ظننتها إشارة قبول الرب لتوبتى، وذات صباح دقت موظفة (اللوجستيات) ببيروت باب مكتبى، وأثناء تناولها فنجان قهوتها عرضت على عدة بدائل للإقامة في سانتياجو، جَهَزَتها بعد تواصل مع مقر المنظمة بتشيلي، من دون تردد وفى هدوء اخترت ضاحية سانتا ماريا دى مانتيكويه؛ ضاحية نائية تناسب الأسر الراغبة في الهدوء أكثر منها لشخص يعيش بمفرده، بعيدة، إلى حد ما عن العمران، يحتاج المقيم فيها إلى سيارة ومع هذا اكتفيت بفرناندو كى أبقى حبيسا إذا ما عدت إليها، وحيدًا مع سبق الإصرار؛ حتى زملاء المكتب، ورغم ما يزيد عن ستة أشهر من العمل معًا، ما زلت متحفظًا في تعاملاتى، رجالاً كانوا أو نساءً، عانيت من آلام اقتلاع جذورى من المدن السابقة فآثرت ألا تمتد عميقًا في سانتياجو، حتى مع همهمات بعضهم تجاه سلوكى شبه الغريب ووصفى بالانطوائى وأننى أقرب إلى بئر بلا قرار، تجاهلت كل ما دُمغت به من صفات سلبية غير مكترث وكأنهم يتحدثون عن شخص آخر لا أعرفه ولا يعرفنى.
كذلك البيت الذى أجلس فيه الآن، نزلته لا أعرف صاحبه ولا يعرفنى، ثم لم ألبث أن اكتشفت تشابهنا في الجذور والفروع؛ جذور عربية، وفروع تتسلق جدران الخيبات اهتداءً بقرون استشعار نزواتها، كتمت إثمى في صدرى وصرح به هو؛ فظن أننى ملاك أرسله الرب لينقذه، وقديس يوشك أن يشع نورًا، أى ملاك وأى قديس تظننى يا سيد أليخاندرو؛ إننا وجهان لعملة واحدة، الفارق أنك تجهل ما أحمله من ماض في صدرى وفوق ظهرى، لو عرفتنى لرجمتنى، أمام شجاعة اعترافاتك ظننت أنك شيطان رجيم، كم أنت واضحٌ وصريحٌ يا سيدى؛ كاشفتنى بأسرارك باعتبارى صديقك المقرب الذى تأخرت معرفتك به، كما ذكرت لى مرات عديدة، فرغم تخطيك العقد الخامس من عمرك لم تفلح في بناء صداقات ناجحة تعادل احترافيتك في التنقل بين النساء دون أن تلحظ زوجتك شيئًا، وعندما اتخذت قرار التقاعد والاكتفاء بما يدره ميراث جدك، فتحت الباب على مصراعيه لنزواتك.
إن ما تملكه من صدق وصراحة لا أملكه أنا يا أليخاندرو، لم أُحدث أحدًا بما كان بينى وبين مايا، فقط ظل سرًا بينى وبينها، حتى عندما ضاقت بى السبل وانقطعت علاقتنا خبئته في صدرى، كم تمنيت أن أجد أُذنا تسمعنى، حتى وإن لم تجد كلامًا ترد به على، في كثير من الأحيان لا نحتاج سوى أذن تسمعنا؛ نخرج بخارنا المحبوس وضغوطاتنا، يكفينا البوح وما يصاحبه من زفرات ألم ونوبات بكاء فتهدأ النفوس، نعاود النظر للحياة من منظور أقل توترا وعدائية.
يطاردنى سؤال واحد منذ أطلعنى أليخاندرو على علاقته بروزالينا؛ هل تفعل سانتانا ما فعلته مايا؟، ثم استدرك لائمًا نفسى، وهل فعلت مايا ما فعلته بإرادتها، كانت تحت تأثير مرضها وأوهامها وعقاقيرها؛ صورت لها خيانة زوجها فراحت تنتقم منه بطريقتها، كُنت العصا التى تضربه بها في السر، مُرددة (العين بالعين والسن بالسن)، إمرأة ممسوسة بنار الخيانة، لا، لا تفعل سانتانا ذلك ولا تفكر فيه، لا توحى ملامحها بالرغبة في القصاص بذات الوسيلة، على النقيض، تبدو إمرأة صارمة تكابد للحفاظ على بيتها، غاب الأب عن بناته فحلت محله إلى جانب دورها كأم، اتخذت قرار السير وحدها غير عابئة بالتبعات، إمرأة قوية لم تنزلق إلى حيث انزلق زوجها، بل حافظت على توازنها ورفعت رأسها في تحد ومضت في طريقها غير عابئة بما يفعله.
ربما كانت، مايا وسانتانا، وجهان لعملة واحدة أيضًا، قوة المرأة وضعفها، رغباتها وكبريائها، يداخلنى يقين أنهما كائن واحد، المختلف هو أنا، اتقنت دور المغلوب على أمره، تعمدت إغماض عينيى والسير في طريق المتعة على صهوة غريزتى، وها أنذا أتوسط بين أليخاندرو وزوجته للإصلاح بينهما، يا لسخرية الأقدار.
لتجاوز حاجز اللغة بينى وبين سانتانا لم أجد سوى لونا، في العقد الرابع من عمرها، وحيدة لا يشغلها شيء سوى عملها بقسم الترجمة بذات الدور الذى يقع فيه مكتبى، وَفَدَتْ إلى سانتياجو بعد وصولى بعدة أشهر قادمة من بامبيلونا بإسبانيا حيث كانت تعمل في الترجمة أيضا بأحد الشركات الدولية، إلى جانب لغتها الأم، الإسبانية، تتقن الإنجليزية والفرنسية، توشي ملامحها بأجدادها العرب، بشرة قمحية وشعر قصير ناعم ينحنى ملتفا حول رقبتها مُخفيا أذنيها الصغيريتين، تتداخل صبغات شعرها الشقراء والسوداء في أناقة.
فاتحتها في الأمر، فابتسمت، وقالت (آن للترجمة أن تقوم بدورها الإنسانى)، ثم ضحكت. بعدها، اتصلت بأليخاندرو لأخبره أننا، أنا ولونا، قد نجحنا في الحصول على موعد لزيارة سانتانا، بعد جدال قصير معها، رأيته ضرورة لحفظ ماء الوجه من ناحية ومؤشر لرغبة داخلية في التوافق، فرح مستبشرًا، الحقيقة أن سانتانا رفضت في بادئ الأمر وكادت لونا تيأس من إقناعها، فطلبت منها أن تخبرها، أن تستقبلنا كضيوف، فخجلت ووافقت مرغمة.
مر على فرناندو في موعد انصرافى من العمل، فقصدنا محل زهور ابتعت منه باقة ذات ألوان بيضاء وصفراء وحمراء وزرقاء ثم عرجت إلى محل مجاور فاشتريت منه حلوى للبنتين ثم انطلقنا بعدها إلى سانتانا، جلسنا في حجرة الاستقبال؛ عن يمينى صورة عائلية للأسرة بدا فيها أليخاندرو أنحف قليلا والبنتين أصغر سنا، وإلى جوارها كانت صورة الجد بالأبيض والأسود مرتديًا جاكت أسمر اللون على قميص أبيض مقفول الأزرار حتى الرقبة وفوق رأسه حطة بيضاء تسرح فيها خيوط سمراء ثُبِتت بعقال أسود، وعلى يمينها لوحة مفاتيحه؛ أو كما يطلقون عليها لوحة مفاتيح الجد سوربرينديو، أو غسان كما يشير إليه أليخاندرو في أحاديثه، بناء على وصية جده، كان يخشى أن ينسوا مع الوقت أصولهم التى جاءوا منها إذا استخدموا اسم خليل كنعان.
تبادلنا التحية وكلمات الترحيب، بدا وجهها مقطبًا بعض الشيء متحفظة في حديثها من غير إسراف، بعد قليل قامت وأحضرت فطيرة تفاح مع قهوة ساخنة يفوح منها عبق التوابل والبهارات، ثم وجهت حديثها لى ولونا تترجم بيننا،
- أعرف أنك تحب فطائر التفاح وأعرف أنك تعيش وحيدًا كراهب، لذا أعددتها لك، وجهزت أخرى لتأخذها معك
- شكرًا جزيلاً
- أرجو أن تنال اعجابك
- بالتأكيد .. جربتها من قبل
- ....
- هل لى أن استأذن في تسوية الأمر بينك وبين أليخاندرو
- ليس في الأمر ما يحتاج إلى تسوية
- أفهم من ذلك أنه يستطيع الحضور إلى البيت ؟
رمتني بنظرة نارية، وقالت بحزم،
- بالطبع لا
- لا أنكر أنه أخطأ، ولم آت إلى هنا لأقدم مبرارت لما بدر منه، ولكنى جئت آملا أن تسامحينه
قالت بعتاب،
- لم أعرف أنك سياسى أيضًا
- ......
- قلت "ما بدر منه"، ولم تشأ أن تسميه باسمه
- أردت رفع الحرج، وما زلت أطمع في تسامحك وسعة صدرك
- أسامحه ؟
- نعم
- على ماذا ؟، على بطالته التى بادر إليها فور وفاة والده، أم على سلبيته تجاهى وتجاه بناته، أم على تعمده تجاهل دوره كمسئول عن بيت، أم .. أم عن خياناته المتكررة لى
- عن كل شيء
- أنت لا تعرف أليخاندرو !
- بالعكس، صحيح أننا تعارفنا منذ شهور قليلة، لكنى أؤكد لك أنه إنسان طيب يحمل قلبًا نقيًا
فقالت بلهجة عكست ملامحها معناها ولم أكن بحاجة إلى ترجمة لونا،
- كلنا طيبون !!
- ....
باءت الجولة الأولى بالفشل، وانتقل الحديث إلى مساحات أخرى حتى استأذنا في الانصراف فودعتنا عند الباب وناولتنى كيسا ورقيا وضعت فيه فطيرة تفاح كاملة وافتر ثغرها عن ابتسامة وهى تقول،
- اتمنى أن تحوز رضاك
تناولتها شاكرًا لها صنيعها وعقبت،
- أنت أفضل طاه لفطائر التفاح، ليس في سانتياجو وحسب بل وفى كل الدنيا
- ......
فضحكت حالما انتهت لونا من ترجمة كلامى؛ لم أكن أجاملها، فرغم كل ما ذقت من فطائر تفاح طهيت بطرق مختلفة في دول عديدة، ظلت فطيرتها الأطعم والأشهى، عندما ناولتنى إياها تذكرت كلمات أليخاندرو عنها (لا تُلهى الأحداث، مهما عظمت، سانتانا عن الواجب)، شددت على يديها، ونظرت في عينيها بامتنان وتوسل أن تغفر لأليخاندرو ما مضى وتفتح معه صفحة جديدة، لكن ملامحها بقيت جامدة ومحايدة دون تلميح أو تصريح.
إمرأة عملية، لا تنسى المطلوب منها، زرتها متوقعًا سوء حالتها النفسية، وشط بى الخيال أكثر فتصورتها تقف على حافة الانهيار جراء تصرفات زوج تراه متبلد وخائن، فإذا بها، على الأقل أمامى؛ متماسكة، لا تلهيها الأحداث عن متابعة ابنتيها كأن شيئًا لم يكن، قامت وهى معنا إلى المطبخ وعادت تحمل صينية الضيافة بصحبة ابنتيها، قدمتهما لنا، ابنتان رائعتان يحملان جمال أمهما وأبيهما في شبابهما، ثم صرفتهما إلى واجباتهما وهى تقول "سوف أمر عليكما بعد قليل"، إلى جانب ذلك أعدت هدية للضيف، خرجت من عندها وكلى إعجاب بها وبشخصيتها وقلت في نفسى "ربما أراد الله بهذه الأسرة خيرًا، حين جعل هذه السيدة أمًا لهاتين البنتين المسكينتين، فلولا سانتانا لضاع البيت وما انتبه أليخاندرو".
نزلت لونا عند بيتها بعد ما شكرتها على حسن صنيعها واعتذرت لها عن تأخرها وتعبها معى، فضحكت وابدت ترحيبها بتكرار المحاولة، عدت مع فرناندو إلى بيتى، فرأيت عن بعد شبحا يجلس على الكرسى أمام البيت، ما أن اقتربت السيارة وصارت بمحاذاة المنزل حتى صحت مندهشا "أليخاندرو؟"، فبادرنى،
- لم أُطق الانتظار، آثرت أن آتى واسمع منك
- كنت سأتصل بك
- يفضل في مثل هذه الأمور أن آتى وأسمع وأناقش، التليفون لا يصلح لمثل هذه المواقف
- ......
أخبرته بما دار وبأننى أنوى مراجعتها مرة أخرى؛ فعقب بأنها عنيدة لا يسهل إقناعها بشيء، أعددت الطعام وتعشينا معًا، لاحظت أنه لم يأكل بشهيته المعهودة، ثم شربت شايا أخضر فيما أعد هو كوبًا كبيرًا من القهوة وراح يتمتم:
- ما زال الليل في أوله، أمامى سهر طويل، فأنا أنام مع طلوع الشمس
سألته عن روزالينا، فمط شفتيه وأخبرنى أنها في المستشفى ثم عقب،
- المصائب لا تأتى فُرادى؛ كانت في عملها بالسوبر ماركت ترص بضاعة على الأرفف من فوق سلم معدنى اختل توازنها وانزلق بها فهوت على الأرض، أصيبت بكسر في عظمة الفخذ استدعت تركيب شرائح معدنية، وعلى ما يبدو أن السقطة كانت شديدة، إذ أصيبت بنزيف اضطر معه الأطباء لإجهاضها، وما زالت بالمستشفى
فسألته مغتما:
- وكيف هى الآن ؟
- أفضل، وإن كانت نفسيتها سيئة
- ...
ثم قال بقلق واضح،
- أخشى ألا تعود لطبيعتها سريعا
- كن قريبا منها
- أحاول وإن كنت لا أعرف ماذا أفعل، بقائى إلى جوارها يعنى ابتعادى عن سانتانا والبيت
- يمكنك الأطمئنان عليها ومساعدتها على الشفاء سريعًا
- اتمنى وإن كنت أعرف أن ذلك ليس سهلاً
- ....
مسكينة روزالينا لا تملك سوى جمالها، تلقت تعليما متوسطا وتزوجت وهى دون العشرين من شاب يعمل في التجارة؛ عقدا قرانهما في الكنيسة ورحلا إلى المكسيك وبعد أشهر انكشفت لها حقيقته؛ تاجر مخدرات ومهرب بشر، كادت تصعق من هول المفاجأة ولم تدر ماذا تفعل، فآثرت الصمت ريثما تحزم أمرها وما هى إلا أيام واتصل أخاها يخبرها أن أمها مريضة جدًا وربما أوشكت على الموت، فتوسلت إلى زوجها أن تسافر لتراها فحجز لها تذكرة طيران على وعد العودة بعد أسبوع أو أسبوعين على أقصى تقدير، وما أن رأت أمها في مطار سانتياجو حتى راحت تنتحب وألقت بنفسها في أحضانها.
كانت قد اتصلت بأخيها وأخبرته بالقصة وأكملت وهى تبكي أنها لا تستطيع أن تكمل حياتها مع زوج يتاجر في المخدرات والبشر، فطلب منها ألا تُظهر شيئا ريثما يفكر في الأمر، ثم كان ان اتصل بها وبزوجها مخترعا قصة أمها، بعد وصولها سانتياجو ظلت تداهن زوجها حتى مرت ثلاثة أسابيع فطلب منها العودة، وعندما لاحظ تهربها أرسل إليها تذكرة سفر جديدة، فأخبرته أنها لن تعود وطلبت منه الطلاق، جُن جنونه وحاول إقناعها فلم يجد سوى صد، اتصل بأخيها وأمها فسمع نفس الكلام.
بعد أيام فوجئت روزالينا بزوجها يقف أمامها؛ في بيت أمها، حاول استرجاعها باللين والشدة دون جدوى، وعندما احتدم الأمر بينهما أخبرته أنها اكتشفت حقيقته وأنها لن تستطيع العيش معه، فلم ينكر وزاد على ذلك بأن هددها هى وأسرتها، تطور الأمر واحتدم النقاش واشتبك مع أخيها، وما هى إلا لحظات حتى صَمْت الآذان صوت طلقة مسدس تهاوى بعدها أخيها غارقا في دمائه، قُبض على زوجها وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاما، بينما راحتا، هى وأمها، تمضغان أحزانهما في صمت، إمرأتان وحيدتان محطمتان من دون دخل ولا سند، واحدة فقدت ابنها والثانية فقدت أخيها وزوجها، بعد أشهر قليلة حصلت على الطلاق واضطرت للعمل في محل لبيع الملابس، ثم انتقلت إلى سوبر ماركت وهناك تعرفت على أليخاندرو.
رغم شعور الشفقة الذى اعترانى تجاه روزالينا إلا أننى رأيت احتمال أن تصب إصابتها في صالح تسوية العلاقة بين أليخاندرو وزوجته، وربما بينها وبين أليخاندرو أيضًا، إن رغبا في إنهائها، لم تكن القضية لمن يُنسب الطفل، فبحسب القانون في تشيلى يمكنها نسب الطفل إليها، لكن وجود طفل معروف الأب كان سيجعل لعلاقتهما بعدًا آخر، يربطهما على مدار الزمن؛ بحدوث الإجهاض فُك الرابط، مسكينة روزالينا، حاولت بناء أسرة تعوضها ما فقدته، تُنسيها وحدتها لكن الأقدار أرادت شيئًا آخر.
ومسكين أليخاندرو، قدره أن يعرف نساءً ذوات شخصيات قوية، يفرضن وجودهن متى حضرن، ربما كان هذا السبب وراء إيثاره التوارى عن المشهد وتفضيله العيش في الظل؛ استقالة من العمل، غياب عن مسئوليات البيت، ألقى بنفسه بين يدى روزالينا، التى لم تتوان في مواجهة زوجها السابق بعمله المشين، وقرارها الفرار منه، حتى معرفتها بأليخاندرو، كانت هى صاحبة قرار التعارف وتحديد موعد ومكان اللقاء الأول، واثقة من اكتساب كرة الثلج سرعتها الذاتية متى تحركت من موضعها، وهذا ما فعلته.
بعد العشاء تطرق حديثنا، أنا وأليخاندرو، إلى سانتانا وروزالينا والفوارق بين شخصياتهما تخلله إعداد أليخاندرو قهوة أخرى له وشايًا لى، بدا الحديث دافئا دون تجميل من جانبه مما جعله يعقب أن تقاربنا يرجع إلى أصولنا المشتركة كعرب، فأبديت دهشتى من عدم معرفته باللغة العربية، فعقب،
- اللغة كالبذور تحتاج من يرعاها ويعهدها بالماء والسماد كى تنبت وتكبر مع مرور الوقت
ثم أشار إلى أن تأثير أمه على البيت كان كبيرًا؛ حيث سادت اللغة الإسبانية وطغت على بقايا العربية التى كان يتقنها أبوه، ثم علق ضاحكا ساخرا،
- حظى أن كل النساء اللواتى عرفتهن ذوات شخصيات قوية، أمى وسانتانا
فعقبت مبتسمًا،
- نسيت روزالينا
فقال وهو يلملم مفاتيحه وهاتفه من على الطاولة ويهم قائما،
- إنها المرأة الوحيدة التى أشعر معها برجولتى
- .....
ثم ضحك وودعنى.