آخبار عاجل

ماهر حسن .. وشايات عادية بقلم: محمد مصطفى الخياط

31 - 12 - 2021 1:52 498

 ما أصعب أن يغمس الكاتب سِنَ قلمه في مِدادِ آلامه ويشرع يكتب أسراره/أشعاره. يترك لقلمه الحبل على الغارب. لا مواربة. لا تلميح. على جسر الكلمات يعبر محطات الحياة، الصَدِئ منها واللامع، المبهر والخافت، المرتفع منها والمنخفض. السار والحزين. تشتبك في لحظة نورانية رايات الفرح والحزن، النصر والهزيمة، فيخرج شعرًا مصهورًا فريدًا يكادُ يضئ.

هذا ما تشعر به حين تطل من بين شقوق أشعار الأستاذ ماهر حسن على خصوصياته في ديوانه الأحدث والسادس (وشايات عادية) من البداية يقر أنه أول الواشين بنفسه، بمعني آخر (خَدها من قصيرها)، وحسبه خلوها مما يُشين. فأعطى ديوانه ذات الاسم وراح يحكي؛ (أبطال حكايانا ما زالوا أحياءً.. ماتوا.. رحلوا.. شاخوا.. ما زالوا أحياءً.. في عُلبِ الذاكرةِ المحفوظة). استدعى شخصيات عدة، أصدقاء، زملاء، أخوة وأخوات، وآخرين عبروا من خلال مواقف عديدة، أخرجها من (علب الذاكرة)، وعَرَضَها لدفء الذكريات، فإذا هي حاضرة ببهائها وطزاجتها كأنما يعيشها للمرة الأولي. 

الكتابة بعض من عذاباتنا، وخاصة ما ارتبط منها بالبوح الحُر. يسطر ماهر شعره متعمدًا تركَ نصف ابتسامة غامضة حيرى على وجوهنا، كاتمًا في صدره آلام مخاض الكلمات، ونزيف ذاكرة متعبة أشقتها كثرة التناقضات. يصور في قصيدته (شبحان) حالته النفسية حين تنتابه الرغبة في الكتابة، فواران كما القهوة على النار، تمور السحب، تعصر كبد الفضاء، تئن السماء برقًا ورعدا، صراع ساحق بين أضداد؛ (شبحان.. انتصبا في باب الغرفة قُدامي.. أحدهما يشرع أوجاعي.. يحمل وجهي.. والآخر.. يحمل وجه امرأة طيبةٍ..)، ليجد في النهاية أن ما كتبه ليس إلا خليط بين ضدين؛ (..فوق الأوراق انسكب ضياء الظلين.. وأنا منكبٌ فوق حروفي). تحكي أسطورة النور والظلام أنك إن أمعنت التأمل في الظلام وجدت نورًا، وإن أمعنت في النور اكتشفت ظلامًا. المعنى، في المتناقضات تكمن الحكمة.

قال لي ونحن نتسامر حول ديوانه (عندما تكتب ذاتك ينسكب صدقك على الورق، وعليك أن تتأكد أنك ستجد ملايين -على ضفة الحياة- يشبهونك ويصفقون لك). اطمأن إلى أن إنسانيته سوف تجذب أشباهه إليه، فلا يسكن في القلوب من الشعر إلا ما ارتبط بحالة إنسانية، ثم راح يعدد على مسامعي نماذج لأشعار صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، وغيرهما، مؤكدًا أن سر خلود تلك الأشعار يكمن فيما تحمل من معان إنسانية سامية.

من هنا أيقن أن من يحبون شعره سوف يهتدون إليه ويقرأونه، يسكبون من نور قراءاتهم ونقدهم ما يُجلي معدن أشعاره، وكم تكون سعادته عندما يفاجئه أحد برسالة تتضمن رابط لمقال عن أحد دواوينه. ينتشي بفرحة طفل يتلقى بكفيه الصغيرتين هدية العيد، مثله مثل أي كاتب. قمة سعادته أن تقرأ العيون حروفه، وتردد الشفاه كلماته. 

أيضًا كشف ديوانه براعته في تقديم الأبيات المصورة. تشعر عندما تقرأ أنك تشاهد فيلمًا وثائقيًا. تنقل لك الكلمات –رغم قِلتها- مشاعر وأحاسيس وصور وألوان ومذاقات مختلفة. يقول في قصيدته (رحيل)، (حاملاً جثتي.. واتجهت إلى آخر الروح.. والريح سجادتي.. شاخصًا في براح الزمان الشرود..). وفي قصيدة (أمير الضياع)، يرسم قائلاً (متوجٌ أنا.. على إمارة الضياع.. لأطعن البحار بالمجداف.. أو أحفز الشراع..).

يتذكر حين سلم إحدى قصائده للأستاذ الدكتور عبد القادر القط (1916 – 2002)، وكان وقتها رئيس تحرير مجلة إبداع، تفحص القصيدة، ثم راح يناقشه في بحور الشعر وفنيات القصيدة، كان لقاءً صعبًا، تركه وانصرف وظن أنه لن ينشر القصيدة ، ولكن القط خيب ظنه ونشرها، ليصبح ماهر من وقتها أحد رواد جلسته الثقافية على مقهى أمفتريون بمصر الجديدة عصر كل جمعة، تعرف فيها على شعراء وروائيين، قرأهم وقرؤه.

حين تنظر إلى هندسة الديوان يلفت انتباهك أن أول قصيدة بعنوان (في البدء)، وآخر قصيدة (طعنة سيف)، وكأنها دورة حياة من الميلاد حتى الرحيل، مع إحساس دائم بالبعد عن الغاية (لكنني رغم طول الرحيل البعيد المدى.. لم أنل بغيتي).

متيم بالحب، جعل من العاشقين فراشات تهيم بالنور (يخرج العاشقون.. إلى حتفهم.. من رماد اليواقيت.. يرتجلون مسافاتهم.. وينسربون إلى شَرَكِ الضوء...)، لكنه لا يلبث يعاتب حبيبته (افتحي كوة الذكريات.. ترين دمي شاخصًا.. في مساء المراثي النبيلة.. ها هو قمرٌ نازفٌ...).

على خلاف دواوينه السابقة، طلب من الرسام قراءة الديوان أكثر من مرة الشروع ثم مناقشته، قبل رسم الغلاف، عرض عليه بعدها ثلاثة أغلفة اختار منها لوحة ينسكب فيها النور من شباك على كرسي ينتظر قدوم صاحبه في الموعد، كعادته، ليبدأ رحلة فضفضته اليومية، بذات العفوية والتلقائية، والكرسي صامت لا يشي بشيء. 

يتوقف ماهر عند مسارات حياته، وكيف حولت الانحناءات البسيطة في طُرق الحياة توجهاته. رغم دراسته الهندسة، ونشأته في بيت صارم وحنون لأب يعمل مهندسًا، إلا أنه عشق الأدب، لم يكترث الأب –في البداية- كثيرًا لميول ابنه، ظنًا منه أنها مجرد هواية لا أكثر، لكنه عندما وجده ذات يوم على شاشة التليفزيون وهو بعد في الصف الأول الجامعي، ثم قرأ أول حوارٍ له مع الأستاذ نجيب محفوظ، أيقن أن الأمر مختلف. كان على ماهر أن يصقل مهاراته ويشق طريقه بنفسه، وقد كان. عمل في العديد من الصحف العربية والمصرية إلى أن استقر به المقام منذ نحو سبعة عشر عامًا في جريدة المصري اليوم.  وأسس فيه قسمي الثقافة والتراث. 

غير عشرات الحوارات التي أجراها مع قامات سامقة في سائر المجالات في الأدب والفن والفكر والسياسة إلى جانب عمله الصحفي قدم في رمضان الماضي سلسلة حلقات عبر يوتيوب بعنوان "حواديت المصري اليوم"، عرض فيها لشعراء، وكُتاب، وموسيقيين، أثروا المحروسة والساحة العربية بإبداعات ما زالت تعيش معنا حتى الآن، ربما نسينا أسماءهم، لكننا أبدًا لم ننس أعمالهم. الأجمل كشفه عن أبعاد جديدة لأعمالهم غابت عن كثير منا؛ فما كتبه الراحل عبد الفتاح مصطفي، وغنته أم كلثوم (أقولك إيه عن الشوق يا حبيبي/ أقولك إيه ومين غيرك دارى بى/ ليالي فى هواك أسهر أفكر/ ومهما قلت لك في القلب أكتر....)، لم يكن سوى شعر صوفي. بذات الأريحية استعرض في حواديته مساحات شاسعة غابت عنا، ولم تغب عنه.

حين تعاوده عذابات الكتابة، وتلاوعه اللغة المراوغة، ويقضي ساعات في فوران حتى تحرق الكلمات سطح الورق، يتذكر رد الأستاذ نجيب محفوظ حين سأله،(كيف تجلس يوميًا في السابعة صباحًا وتكتب؟)، فأجاب مبتسمًا، وبلهجة عامية (استطيع ترويض المود "المزاج" !!)، لذا صار أديب نوبل. 

يقول ماهر حسن، (السيف المغمد في قلبي.. والحزنُ المرشوقُ بعيني.. يصدأ.. يصدأ...  ...يحمل ظلي.. ويساومني.. كي يمنحني.. بعضًا منى.. أو يسحب هذا السيف.. ويعطيني عقلي). ومع هذا يأبي ماهر حسن نزع سيف الشعر من فؤاده، ليظل مثل طائر الشوك، ينتقي أطول وأسن شوكة في شجر الغابة ويرتمي بصدره عليها، ويطلق أعذب الألحان، (هذي أول طعنةِ سيفٍ.. أظمأ فيها حتى الموت.. أشعر أني بعد الطعنة.. أسمو، أحيا.. أشعر أني محض خيال..)، ليتركني -كعادته معي- على وجهي ابتسامة وعلى شفتاي ألف سؤال.



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved