عندما طالعتُ رواية (قطعة من أوروبا) للدكتورة رضوى عاشور (1946 – 2014) توقعت أنها باحثة متخصصة في أحد فروع التاريخ، تمتلك ناصية السرد والقدرة على صياغة الوقائع التاريخية في قالب روائي. أدهشني تخصصها في الأدب الإنجليزي.
عاشت رضوى شتاتًا أُسريًا انعكس في رواياتها الأشهر (غرناطة، مريمة، والرحيل) اللواتي تم إعادة نشرهن تحت عنوان (ثلاثية غرناطة)، و(الطنطورية) ذلك السجل الحي للشتات الفلسطينى صوتاً وصورة.
إثر منع زوجها، مريد البرغوثي، من الإقامة في مصر بدأت رحلة شتات رافقت فيها حقيبة السفر عبر المطارات، وتأشيرات الدخول، وصالات الترانزيت. ورافقها فيها صغيرها، تميم.
تُعبر كتاباتها عن نفثة مصدور. وتعاين فيها قلق الحيارى وبؤس التائهين. تستخرج رضوى عروق الكلمات من تحت ركام التاريخ ثم تطهرها بالنار من رمال التزييف، ثم تنزف حروفًا مغموسة في القهر عن دير ياسين وشوارع نابلس، عن أغصان الزيتون، وبرتقال يافا، وقطع الكنافة المتجمرة شوقًا.
طافت مع مريمة شوارع غرناطة، وحي البيازين، والصنادقية، والخيامية، والنحاسين، وباب الرملة. عبقت جو البيت برائحة الخُزامي، عاشت معها صباها وشبابها وفرحتها بابنها البكر، وعضت معها الشفاه حسرة على ضياع الوطن، وغشيتها فرحة عصفور حين تجدد الأمل في الحفيد، وراقبت استسلامها لتَقَدُم العمر. وصمتت خاشعة لتسرب قطرات الأيام من صنبور القدر. تحممت بالدموع ثم راحت في هدوء تُسلم الروح على أبواب المدينة الأم، رَنَت حزينة للحفيد يعود أدراجه للمدينة المسلوبة رافضًا الرحيل، ومؤَكِدًا أن (لا وحشة في قبر مريمة).
في جانب آخر، يمكن تقسيم روايات الدكتورة ريم بسيوني، أستاذة اللغويات فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى قسمين، الأول من تاريخ صدور روايتها الأولي (الحب على الطريقة العربية) عام 2009 وحتى روايتها (مرشد سياحي) عام 2017، ظهرت فيها براعة روائية تتطلع إلى قِبلة تتموضع فيها.
والقسم الثاني يبدأ من صدور روايتها (أولاد الناس .. ثلاثية المماليك). برز حسها التاريخي عاليًا. فتحت عيوننا على مشهد مغاير لما شاع عن المماليك؛ كَشَفت جانبًا عن بطولاتهم والتحامهم مع المصريين في الدفاع عن المحروسة ضد جيش سليم الأول. هنا تبوأت ريم قِبلتها عَبرَ حبكةٍ روائية بارعة تقارب دقيق نفائس مشربيات ذلك العصر ونقوشه.
تتشابه بدايات حكي ريم مع خيط سرسوب ماء لا تكاد تُلقي له بالاً، تتتبعه تحت تأثير الفضول في بادئ الأمر، لكنك لا تلبث تغدو له أسيرًا، فراشة صغيرة عَلَقَت بنسيج حكاياتها، وإذا أنت لصق الخاتمة دون أن تدري.
تأكدت بصمة رواياتها التاريخية عندما أتبعت رائعتها هذه بروايتيها؛ (سبيل الغارق.. الطريق والبحر)، و (القطائع.. ثلاثية ابن طولون). بدا واضحًا امتلاكها أدوات قولبة التاريخ في نسيج روائي، ومزج الوقائع السياسية بالاجتماعية ورسم ملامح وردود أفعال شخصياتها بدقة، مع قدرة السير بحرفية على شفرة سكين الخط الفاصل بين تناقضات أبطال رواياتها.
نقاط تشابه عديدة جمعت رضوي وريم، فكلتاهما تخرج في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية، الأولى من جامعة القاهرة، والثانية من جامعة الإسكندرية، وكلتاهما حصلت على الدكتوراه من أمريكا، وكلتاهما أيضًا مولعة بالرواية التاريخية، ويبدأ اسميهما بحرف الراء، وتحته كتبت رضوى روايتها (تقارير السيدة راء).
بخلاف ذلك يأتي تقاربهما العاطفي في الصياغة، تقول ريم في رواية أولاد الناس على لسان فاطمة (في الحب لا يوجد مراتب يا مولاي، إما أن تحب بكل نفسك وإما ألا تحب)، وتقول رضوى في الطنطورية (وأنا أقرأ لك أتخيلك وأنت تكتب، أرى وجهك، جلستك، حركة يديك، مكتبك.. فأشتاق أكثر). تحية للسيدتين راء.