شاءت الأقدار أن التقي في أسبوع واحد ببعض الأصدقاء العرب. جمعتنا فترات الاستراحة حول فناجين القهوة وإلحاح دلق خزين حكايات حبستها كورونا وأخواتها.
لم يعد مشهد الكمامة المعلقة بالأُذن أو تلك المترهلة أسفل الذقن يثير الدهشة. فرضت الإجراءات الاحترازية نفسها على الجميع. مضى قرابة العامين ولم نلتق وجهًا لوجه. عُقدت عشرات الاجتماعات عبر نافذة الإنترنت.
كعادة تلك الجلسات، توارت البروتوكولات وعبارات الصباغة الاصطناعية، وأطلت الشخصيات الخفية من الجيوب السحرية. بعفوية، تبعثرت الهموم والنكات على الطاولة، بحثًا عن نقطة توازن في زمن مضطرب. انساب سيال المشاعر الدافئة في قنوات البعد الإجباري المتشققة جفافًا.
(هاجر أغلب الزملاء...)، قال صديقنا اللبناني بصوت مُعتق بالشجن ثم راح يذكر الأسماء. من نعرف ومن لا نعرف. انفرطت حبات المسبحة شمالاً وجنوبًا بحثًا عن الأمان.
حاصر الوضع الاقتصادي المتدهور الجميع. لم يترك مجالاً لاحتمالات إيجابية. عملة تنهار. وحكومة على جهاز التنفس الاصطناعي. وقاضٍ يحقق في انفجار شبه نووي محظور عليه طلب شهود أو توجيه اتهام. بلد صغير يختزل العالم، (وتحسب أنك جرم صغير.. وفيك انطوى العالم الأكبر).
(نحن لا ندري بالضبط ما الذي يحدث في اليمن، الشيء الوحيد الذي ندركه أننا نموت في كل يوم ألف مرة، في الطريق إلى المسجد، في السيارة إلى العمل، في طابور الخبز، في محطة الوقود، ...). مثالٌ حي لشعر نزار قباني في قصيدته بلقيس والوطن (والموتُ.. في فِنْجَانِ قَهْوَتِنَا ..وفي مفتاح شِقَّتِنَا ..وفي أزهارِ شُرْفَتِنَا.. وفي وَرَقِ الجرائدِ .. والحروفِ الأبجديَّةْ..). تبادلنا النظرات دون تعقيب وتعكر جو الجلسة.
ثم أردف قاصًا بعضًا من مشاهد الراحلين طلبًا للنجاة، شرقًا وغربًا، وشمالاً مع الطيب صالح عبر روايته (موسم الهجرة إلى الشمال)، مُقسِِمِين أنهم لن يتبعوا خطوات مصطفى سعيد في عودته إلى السودان.
طردًا لجو الكآبة قص علينا صديقنا العراقي ما وقع له خلال أحد زياراته لأبو ظبي، مال على سائق التاكسي وأخبره بوجهته. هز الهندي رأسه، التي لا تكف عن الحركة يمينًا ويسارًا كأنما ثُبتت على سوستة رأسية، ومضى في طريقه، فيما انشغل صاحبنا في تصفح برامج التواصل الاجتماعي، يلقي صباحًا لهذا، ويرسل إيموجي لتلك، ويعقب برسالة على هؤلاء.
ثم انتبه فجأة أن الطريق طال عن المعتاد، إذ لا يستغرق عادة أكثر من عشر دقائق، فما باله اليوم طويل، نظر من نافذة التاكسي فشاهد طرقًا ومبان لم يعهدها في مساره اليومي. استفسر من السائق قلقًا، فما كان من الأخير إلا أن هز رأسه ورد واثقًا بإنجليزية التصق فيها لسانه بسقف حلقة؛ أنه يتبع السيد جوجل، فرد متهكمًا (سيدنا دائمًا على حق، ولكن قل لي ماذا طلبت منه)، فأجابه، فعقب صاحبنا متوجسًا تقصد كذا، فرد مستنكرًا Same Same. وهنا طفحت على وجه صديقنا العراقي كل مظاهر الغضب العربي، متناسيًا سنوات هجرته إلى كندا وجواز السفر البني الداكن الذي لا يفارق جيب سترته الداخلي، فشجب وندد ولعن واستنكر غير مدخرٍ لجهد، حتى إذا ما توقف هنيهة يلتقط أنفاسه سارع الهندي بالاعتذار وبصوت لا يكاد يَبِين وهزة رأس خفيفة اعتذر وأخبره أنه لم يُمض عليه في أبو ظبي أكثر من يومين، ثم راح ينتقد السيد جوجل على وقع إيقاع زفرات ضيق صاحبنا. فابتسمنا.
تعددت الأسباب والهجرة واحدة، حجز اللبنانيون مقاعدهم في أول طائرة، وتشتت اليمنيون بحثًا عن طوق نجاة، فيما سبقهم العراقيون والسوريون. الهجرة مصير مشترك. حفظ الله الوطن.