ما لهذا العالم مهووس باختبار مدى هشاشة نظمه وهياكله الهندسية على مدار الساعة. مفتون بإيقاد النار صباح مساء. غير مكترث بمقولة نزار قباني (وأن من أشعل النيران يطفيها)، مع الاعتذار لسيبوية وعشيرته فالصواب (يطفئها).
نعبر على جسر النار متكئين على سيقاننا المبتورة في الحروب الكبيرة والصغيرة. وأفواهنا المكممة في الغرف المظلمة. تُعكر خطط الأباطرة، والقياصرة، والأشاوس، مساءاتنا الحزينة. عوالم جديدة تُرسم؛ دولٌ تبتلع دولاً، ثم تجلس تتجشأ على طاولة المفاوضات بعينين كسولتين.
للمسرح وجهان؛ باك وضاحك، وللسينما ألف وجه، كذلك السياسة. لا خجل ولا حياء. بقدر استخدامك لغة مطاطة حمالة أوجه تتحدد مكانتك.
لم يتخيل الشاب الحاصل على ليسانس القانون، والذي قرر التحول للإنتاج السينمائي وتقديم أفلام رسوم متحركة وأخري روائية، قام في أحدها بدور رئيس أوكرانيا، أن تتحول المشاهد إلى واقع. وعد فولوديمير زيلينسكي خلال حملته الانتخابية عام 2019 بتصفية الأجواء مع روسيا، ناسيًا أن سيناريو فيلم الحياة يكتبه الأقوى.
للجغرافيا الكلمة الأولى والأخيرة، موقعٌ فريد جعل من أوكرانيا معبرًا للغاز الروسي إلى أوربا، مع حدود تتماس مع بحرين استراتيجيين، وست دول يشاغل إحداها ماض فرضت فيه هيمنتها وسيطرتها. انفرطت حبات الاتحاد السوفيتي منذ نحو ثلاثين عامًا، بعد حرب باردة مع أمريكا دفع فيها حلفاء الطرفين ثمن الفاتورة كاملة، دمًا ومالاً وأرضًا.
مع ذوبان جليد الاتحاد السوفيتي تحت تأثير تغير المناخ السياسي، سارع الغرب بمغازلة دول تعيد التفكير في هويتها، فانضم منها جزء إلى الاتحاد الأوربي، وبقي شطر يغالب رغباته القديمة، بينما وقف الدب الروسي على قطعة ثلج وحيدًا وسط محيط الأحداث.
بتولي فلاديمير بوتين الرئاسة، منتصف عام 2012، بدا واضحًا أن هناك منهج جديد. قد لا يكون من المستساغ إعادة تجميع اجزاء العربة الـمُفَككة مرة أخري، وإن بدا ربطها سياسيًا ممكنًا، عبر دعم نظم حكم تتوافق معها فكريًا، اعتمادًا على مزيج ديموغرافي وأعراق متشابكة ولغات متشابهة.
من هنا، سارعت روسيا لمساندة رئيس كازاخستان، قاسم توكاييف، عسكريًا في يناير الماضي لقمع ما عُرف باضطرابات الغاز، ودعم أذربيجان أيضًا لمنع انفصال بعض المناطق. إلى جانب، اختراق شبكات معلومات بعض الدول. وتوطيد العلاقات مع الصين لتشكيل كتلة حرجة يمكنها إعادة رسم مناطق النفوذ، وخاصة المتأثرة بالهيمنة الغربية.
مع الإعلان عن نية أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، تخلى الدب الروسي عن صياغة عبارات سياسية بلا لون أو طعم. من جانبها، لم تدخر الدول الغربية جهدًا في تأجيج الموقف المتورم بين أوكرانيا وروسيا. ودفع الغرور البعض نحو حافة الهاوية، ووقف المتفرجون على أطراف اصابعهم ينتظرون ظهور البطل لتشتعل أيديهم بالتصفيق، فيما تسارع عداد القتلى والمشردين والمهجرين، على مدار الساعة.
على إيقاع الانفجارات، اكتشفت الأسواق هشاشتها المفرطة. كقطع دومينو انتظمت خلف بعضها البعض، كفل سقوط إحداها انهيار كافة القطع. قفزت أسعار البترول فوق مائة دولار للبرميل هلعًا، وتبعتها أسواق الغاز والقمح. ارتبكت منظومة الشحن وراودتها الكثير من الشكوك، فارتفعت التكلفة أيضًا.
مشاهد مؤلمة تكسو سطح كوكبنا المسكين -في الشمال والجنوب- نؤكد فيها مع كل طلقة رصاص تخلينا عن إنسانيتنا، ومع كل دانة مدفع إيثارنا التدمير على التعمير. ومع كل صاروخ رغبتنا المتوحشة في الفناء.
من بين أطلال العالم الباكي يتصاعد دخان الحرائق كثيفًا، ينكشف قليلاً عن رمز الموت مُلفعًا بالسواد، يرفع بيمناه حربة معقوفة وبيسراه راية رُسم عليها عظمتان وجمجمة، ويتطلع للمزيد. حفظ الله الوطن.