آخبار عاجل

نيرون يحرق المدينة بقلم د: محمد مصطفى الخياط

10 - 03 - 2022 12:03 428

كان أحد مزايا الإقامة في مقاطعة زارلاند الألمانية سهولة السفر إلى بعض البلدان الأوربية بالأتوبيس أو القطار في العطلات الأسبوعية. الوصول إلى بروكسل عبر لوكسمبورج، وإلى فرنسا بالقطار. لا تتجاوز الرحلة الواحدة أربع ساعات يحاصرك فيها اللون الأخضر، منسدلاً على أكتاف الجبال ووجوه الطرق السريعة، تطوي اللافتات والعلامات الإرشادية، ووحدها –تنبهك- رسائل الهاتف المحمول أنك عبرت الحدود إلى بلد آخر، تخبرك بكود المدينة، وأرقام الهاتف الضرورية؛ الشرطة، الإسعاف، مركز المعلومات، وغيرها. 
يبادر مرافقي العربي مقارنًا بين تلك الحدود الأوربية المترامية والمفتوحة الذراعين للعابرين من كافة الأجناس، وما يلاقيه خلال زياراته لوطنه الأم؛ يفحص رجل الشرطة بطاقة هويته عند العبور من مدينة إلى مدينة، وربما من شارع لآخر، يحدق فيها، ثم يتأمله بعينين لزجتين كسولتين تمطرانه بالاتهامات، عَلَّ إحداها تُفلح في استنطاق قسمات صديقنا العربي بما يريب، فإن لم يجد كان أحد أمرين؛ يمد ذراعه بالبطاقة –من غير اكتراث- وظهره لصاحبها، أو يحكي له عن الأسعار وزوجته التى لا تنتهي طلباتها، فيدس صاحبنا في يده بعض نقود تنفرج على إثرها أسارير الشرطي ويمنحه لقب بك وربما باشا.
مشاهد تضعك في الزاوية أمام حيرة السائق عبد الودود في فيلم الحدود، لدُريد لحام، ضاعت أوراقه الشخصية أثناء سفره بين دولتي غربستان وشرقستان، فترفض كلا الدولتين دخوله. يضطر للتخييم على الحدود، وتدور سلسلة من المفارقات، تترك –رغم خفة ظلها- طعم العلقم في الحلوق.
كانت مقاطعة زارلاند معبر قوات هتلر إلى قلب أوربا، لذا تعرضت خلال الحرب العالمية الثانية إلى قصف حول زاربروكن العاصمة من مدينة تزهو بمبانيها ومسارحها ورموزها السياحية إلى حطام وركام. بانتهاء الحرب، استُخرِجَت صور المدينة من الأرشيف، يُغلفها عنكبوت الخراب، وتراب الحسرة، ثم أُعيد بناؤها على نفس الطراز القديم. لتولد من جديد.
لا تختلف ما تثيره مشاهد الدمار في أوكرانيا من أسى وحزن وعذابات الفقد عن مثيلتها في العراق، وسوريا، وفلسطين، واليمن، وغيرها من البلاد. نفس المشاعر. ففي كل الأحوال يظل الإنسان هو الضحية. الشياطين فقط، هم من يفرحون لمشاهد القتل والخراب، يُخفون خلف رايات الانتصار المزيف الصفراء ساديتهم، ورغبتهم المتوحشة للقتل والتدمير.
على طريقة فتوات نجيب محفوظ في ملحمته (الحرافيش)، راح أحد فتوات العالم يستعرض جبروته، حطم البيت على رأس صاحبه، ألقى عفشه في الشارع وأضرم فيه النار، تسابق صبيانه في ضرب الرجل المُسجى على الأرض غارقًا في دمائه بالنبابيت على مرأى ومسمع من الجميع، تفاوتت مشاعر رفض الجيران بين ابتهالات سرية بأن ينتقم الله من كل ظالمٍ جبار وهمهمات بين الشجب والتنديد والعجز. بينما الرجل وأسرته تلهو بهم النار والصبيان على إيقاع طبول صوت الفتوة الهادر من أمام المقهى يدخن النرجيلة ويراقب المشهد بعينين باردتين تاليًا قرارته الكارثية. الشيطان يعظ.
كييف، وخاركيف، وأوديسا في أوكرانيا اليوم هي زاربروكن الأمس، هي الضفة الغربية وغزة كل يوم، هي عدن وصنعاء وتعز في اليمن، هي البصرة، وبغداد، والرمادي في العراق، هي دمشق والغوطة وحمص في سوريا، هي بنغازي وطرابلس ومصراتة في ليبيا، هي الصومال المفقود منذ عقود، هي السودان ولبنان القائمان على فوهة بركان، فالقذيفة المصوبة إلى قلب الوطن، تغتال قبل أن تسكن كَبِدَ الأرض، تغتال الإنسان.
من قبل أحرق نيرون روما وجلس يتأمل جشع النار من شرفة القصر، تُرى كم ألف يد، وكم ألف عُمر، احتاجتها روما كي تشرق من جديد. حفظ الله الوطن.
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved