
لا تتوقف .. هناك دائمًا خطوة تالية، سواء أكانت تحت رذاذ مطر المشاكل، أو وميض شظايا الحروب المشتعلة في أركان الكرة الأرضية. نكتب قبل أن تصل النار إلى قلب الورقة. نبحث دائمًا عن شيء ندفن فيه جمر مشاغلنا، أو بخار همومنا.
نشر الكاتب الفرنسي أنطوان إكزوبيري (1900 – 1944)، كتابه "الأمير الصغير"، قبل وفاته بعام. ثمانون عامًا وما زال يحتل واجهات المكتبات العالمية، تُرجم لأكثر من مائتي لغة. تحتار كيف تصنفه. يجد فيه الطفل قصصه الشيقة، ويجد فيه الشاب تسليته في أوقات الفراغ، ويتأمل فيه الكهل منابع الحكمة. تتتابع فصوله قصيرة سريعة، لا يتجاوز الواحد منها الثلاث صفحات مع رسوم ملونة بسيطة.
اقرأ معي هذا المشهد، (مر قطار سريع يشع بالأنوار وله دوي ولا دوي الصواعق، فارتجت غرفة عامل القطار، فقال الأمير الصغير: إنهم متعجلون فماذا يطلبون؟، قال العامل: سائق القاطرة نفسه لا يدري ماذا يطلبون، ومر قطار آخر في عكس اتجاه القطار الأول، فقال الأمير الصغير: أتُراهم عادوا من رحلتهم؟، قال العامل: لا إنما هؤلاء أُناس غيرهم. قال الأمير: ألم يكونوا راضين حيث كانوا؟، قال العامل: وهل يرضى المرء عن بلد يكون فيه؟، ومر قطار ثالث يشع بالأنوار، فقال الأمير: أتراهم يطاردون المسافرين السابقين؟، قال العامل: لا يطاردون شيئًا، فهم في داخل القطار يغطون في نومهم أو يتثاءبون، ولئن كان من أحد يلصق أنفه بزجاج النوافذ ليرى ما بالخارج فأولئك هم الأولاد. قال الأمير: الأولاد وحدهم يدرون ما يصنعون. قال العامل: هنيئًا لهم).
كيف صنفت المقطع سيدي القاريء؟، إن طلبت من طفلك قراءته فسيحدثك عن القطارات التي تسافر في الاتجاهين وعن ركابها النائمين بحثًا عن قسط من الراحة في زحام الحياة، بينما تلهو أطفاهم بتلك الدمى القماشية، أو يلصقون وجوههم بزجاج النافذة يتأملون مشاهد الطبيعة، وعندما ينتهون من قراءة الكتاب سيحدثونك عن اشياء أخرى؛ عن الزهور، والنمور، والثعالب، والثعابين، والجبال، والبراكين، والنجوم، والمواقيت.
أما إن قرأتها أنت سيدي، فستجد فيها شيئًا من حكمة الحياة، كلنا مسافرون في قطارها المزدحم الصاخب. لا يعرف فيه راكب ما يفكر فيه جاره، قطار واحد ومقاصد مختلفة. ليس هذا فحسب، بل إن قطارات الحياة تسير في اتجاهات مختلفة، ولكل منهم مسافروه، وإياك أن تظن أن وِحدة قِبلةْ السفر تعني ذات النهاية، فلكل راكب محطته الخاصة، سواء نزل قبل خط النهاية أو انتظر، أو حتى قفز متعجلاً.
يسافر الأمير إلى كواكب كثيرة، وله في كل منها قصة تحمل عبرة وأحيانًا عبرات. يتحدث مع الملوك في لغة سهلة عن أدوات الحكم ونُظُمه. قص عليه أحدهم أنه لم يُصدر أمرًا يومًا وعصاه أحد، وعندما سأله الأمير الصغير عن السبب، أجاب الملك: كيف أطلب من رعيتي ما لا يستطيعون تنفيذه. عرف قُدراتهم فحملهم ما يُطيقون.
لا تكمن القضية في إصدار أمر، بل في استيعاب وتقدير ما يتطلبه التنفيذ من جهد وأدوات، فإذا ما وجد سبيلاً لتنفيذه أَمَرْ، فاستقر في نفس رعيته تلبية ما يطلب.
يحدثك الأمير الصغير عن مشعلي المصابيح، فتكتشف بعد حين أنه يحدثك عن دورة الزمن، والشروق والغروب، واختلاف المواقيت، ومواقع النجوم.
ثمانية أيام هي عمر حكايات الأمير الصغير، قضاها معه الراوي في الصحراء بعد ما سقطت طائرته ليقابل الأمير ويتجولا معًا في أركان الكون الفسيح، ليس مجراته ونجومه فحسب، بل ونفوس سكانه التي تتسع بالسماحة حتى تحتوي العالم، وتضيق بالكُره فإذا النَفَسُ لا يمر.