كثيرة هي الروايات الجميلة. قليلة تلك القريبة من قلوبنا. بسرد أقرب للسيرة الذاتية كتب الروائي الإندونيسي أندريا هيراتا روايته (عساكر قوس قُزح). تقف على سطورها الطيور الملونة، وتختبيء بين أوراقها قرود المكاك، ويفوح من غلافها رائحة المطر.
بخفة، تجاوز أندريا بقرائه اختلاف الجغرافيا والعادات والتقاليد، أجلسنا مع طلبة (المدرسة المحمدية) المكونة من فصل واحد لا غير يضم أحد عشر تلميذًا في مدرسة أقرب إلى حُطام، (لو نطحها تيس مهتاج لتهدّمت وانهارت)، عمادُها مدير ومعلمة يعملان دون مقابل، ويتحملان مضايقات الإدارة وندرة الموارد في سبيل رسالة العلم. حين ينفد الطباشير تأخذهم إلى الفناء الرطب وترسم لهم على الأرض.
من العائدات الزهيدة لحقله الصغير يدبر السيد (باك هرفان) احتياجاته، فيما تعتمد الآنسة (بو مِس) على حياكة ملابس سيدات القرية. جمعهما الإصرار على تحسين مستوى معيشة تلك القرية المعزولة في جزيرة نائية ضمن أكثر من عشرة آلاف جزيرة تتكون منها إندونيسيا. يتركز عمل سكانها في جمع ثمار جوز الهند وصيد الأسماك، ويعمل البعض في التنقيب عن القصدير. عمل شاق ودخل ضئيل.
الوصول إلى المدرسة رحلة محفوفة بالمخاطر، يعبر البعض خلالها بحيرات تسبح فيها التماسيح وغابات تسكنها الكثير من الحيوانات. ربما وصلوا بعد بداية اليوم الدراسي، وأحيانًا مع نهايته. المهم أن يحضروا. لا أعذار فالآنسة (بو مِس) لا تغفر لمن غاب. غاب أحدهم لعدة أيام، فاستقلت دراجتها المتهالكة إلى السوق، حيث قرر العمل وترك الدراسة، وعادت به.
المشاركة في المسابقات كان سلاح باك هرفان وبو مس لِلَفت الانتباه إلى المدرسة. لم تكن المنافسات سهلة مع مدارس حكومية ودولية، تفوق مصروفات طالب واحد فيها ما يُنفق على المدرسة المحمدية في عام.
في إدراك قدراتك وسبل تضفيرها في عمل مختلف يكمن السر. تقديم عروض بسيطة الإمكانيات، عميقة المعنى، واضحة الرسالة، كفل فوزهم بالمركز الأول، وانتزاع إعجاب وتقدير الجميع -حتى منافسيهم- في المسابقات الاستعراضية. في حين ضمنت نخبة من التلاميذ النابغين فوزهم في منافسات التفوق. كانوا مزيجًا رائعًا، وكان أجمل ما فيه قدرة الآنسة (بو مس) على تشكيل الفريق المناسب لكل حدث.
عرف الجميع المدرسة واستحق الجميع التقدير، حتى المفتش الذي كان يتربص بهم، استبدل وجهه المتجهم بآخر بشوش تسكنه الألفة والاحترام.
ولكن، من قال إن للتحديات نهاية، أبدًا لا تنتهي، ما إن تتخطي عقبة، حتى تجد أمامك حاجزًا جديدًا. تشعر أنك في سباق حواجز حول دائرة كبيرة بلا نقطة نهاية. (التغيير هو الثابت الوحيد)، كما قال هيراقليطس.
ذات يوم، دق باب الفصل موظف حكومي وسلم الآنسة (بو مس) إخطارًا بضرورة إخلاء المدرسة وتسليمها للشركة المالكة. كانت تلك معركتها الأكبر.
حين طلبت مقابلة رئيس الشركة، سخر منها الموظف المسئول، وأمام إصرارها أرسل الطلب وكله يقين بتلقي رد بالرفض، لكنه جاء بالقبول، وبعد نقاش طويل يوافق رئيس الشركة على استمرار المدرسة. كم كان الانتصارُ كبيرًا.
وتمر السنون والأعوام، ويحصل آندريا هيراتا، أحد طلبة المدرسة على منحة دراسية في أوربا، فيقرر نشر الرواية وفاءً لعهد قطعه على نفسه، ويعنونها بذات الاسم الذى أطلقته عليه وعلى زملائه، كلما شاهدتهم فوق أشجار الغابة يتأملون قوس قزح بعد هطول المطر، (عساكر قوس قُزح).
في معرض تعليقه على الرواية، يقول آندريا، أردت للعالم قراءة قصة أُناس منسيين يقيمون في قرية لا تكاد تبين من صغرها على الخريطة. تحية للآنسة (بو مس) والسيد (باك هرفان)، وكل إنسان صاحب رسالة نبيلة.