ليست المرة الأولى التي تقتحم فيها قوات الاحتلال الإسرائيلي باحة المسجد الأقصى، ولا المرة الأخيرة التي يدافع فيها المصلون العزل عن رمزهم الديني. كالعادة، تقع الخسائر البشرية والمادية في الجانب الأضعف. الوقوف على حافة اليأس يدفع الجميع نحو الهاوية.
في روايته (وارث الشواهد)، يحكي وليد الشرفا عن شاب فلسطيني زار قريته بعد سنوات طويلة من الغربة، فضلت أمه هجرته خشية أن يلحق بأبيه الذي قتله اليهود بدم بارد. تَمَشّى في شوارع الطفولة، وقف أمام البيت الذى يضرب الموج جداره الغربي، وشجرة الزيتون التي تُقبل فروعها نافذة الدار. زكمت رائحة الخبز الساخن بزيت الزيتون والكنافة النابلسية المتجمرة أنفه مع تعاقب دوران صواني الشاي والقهوة على الجيران المتحلقين في ليالي السمر.
صدمته محاولات تهويد المدن وطمس هويتها الفلسطينية. غيروا اسماء الشوارع والميادين. سرقوا حجارة المنازل وبنوا بيوتًا ومقاهٍ. تلبسه الجنون عندما شاهد اسم جده المنقوش على حجر منزله في دورة مياه. حاول مستميتًا فصله عن الحائط وإعادته إلى موضعه القديم، في مدخل البيت. حاولت الشرطة منعه فاشتبك معهم، وانتهت المواجهة بمقتل شرطي، وتوالت الأحداث.
على الضفة الأخرى، صدرت النسخة الإنجليزية من كتاب (ابن الجنرال.. رحلة إسرائيلي في فلسطين)، لمؤلفه ميكو بيليد، عام 2012. كأبن لأحد أشهر جنرالات جيش الدفاع عاش ميكو يحلم بالبيريه العسكري يزين رأسه. شارك في دوريات الجيش والكثير من العمليات، حتى استوقفته عملية قام فيها جنود الاحتلال بتدمير حقل فلاح فلسطيني. أثار فيه الموقف آلاف الأسئلة، وراح يراجع عقيدته وانتماءاته، حتى بعد هجرته إلى كاليفورنيا، عندما تلقى ذات صباح مكالمة هاتفية من والدته تخبره بمقتل ابنة أخته في هجوم انتحاري.
لم يكن يعرف حينها عن الفلسطينيين إلا ما تنقله الصحف الموجهة. فتح كتب التاريخ الفلسطيني، واكتشف أنه كلما عَلَتْ أكوام الضحايا ارتفعت رايات النصر أكثر، وأن إسرائيل ليست داوود الأعزل في مواجهة جالوت العربي.
أمسك بالقلم ودَوَّنَ نظرته للصراع العربي الإسرائيلي عبر سيرة حياة أسرته؛ الأم –المتطوعة السابقة بالكتيبة اليهودية بالجيش البريطاني- رفضت بيتًا عُرض عليها في القدس لأنه سُلب من ساكنيه العرب الأصليين، ضمن خطة التهويد. وأخته المكلومة في ابنتها رفضت دعاوى الثأر لأنها أعلم بمدي حرقة قلوب الأمهات على فلذاتهن. الأب الذي تقاعد في سن الخامسة والأربعين، بعد حياة عسكرية حافلة بالإنجازات، وتخصصه في الأدب العربي وسعيه لإقامة سلام عادل.
تحدث عن مبادرات السلام وما مرت به من عقبات بهدف كسب الوقت لاحتلال المزيد من المدن وإقامة المزيد من المستوطنات في المناطق العربية، لفرض سياسة الأمر الواقع، حتى إذا ما عرضوا على ياسر عرفات عقد اتفاقية سلام تصبح أقرب لاتفاقية استسلام.
تحدث عن المعايير المزدوجة في دعوة زعماء إسرائيل بأحقية اليهود للعودة إلى أرضهم المقدسة، رغم أن اليهود الذين عادوا ليسوا هم الذين سبق وخرجوا منذ آلاف السنين، وإنكارهم على الفلسطينيين حقهم في العودة إلى بيوتهم التي خرجوا منها، بيوتهم التي ما زالت تحتفظ برائحتهم في أركانها، ولو كُتب لهم العودة لأعادوا رص الأحجار في مواضعها على الجدران.
وسواء أكان الحجر رمزًا في (وارث الشواهد) لوليد الشرفا شَاهدهُ المهاجر صدفة بعد عقود من الغياب، أم واقعًا مُنَظَمًا في (ابن الجنرال)، لميكو بيليد تفككه السلطات لطمس معالم البلدة القديمة، أم في حجم قبضة طفل يتحدى به دبابة، فجميعها مُدونٌ عليها عبارةٌ واحدة (سجل أنا عربي). حفظ الله الوطن.