نجح الزمن في تكسير عظامه، وأخفق في إطفاء جذوة عينيه الرماديتين. بقيتا تُفصحان عن تاريخ من الشقاوة والتمرد. خطف السندويتشات من أيدي التلاميذ في الابتدائية والتلذذ بالتهامها أمامهم بين كر وفر، حتى إذا ما فرغ منها، عاود الكرّة مع تلميذ آخر. كان مغرمًا باستثارة الآخرين.
مغافلته المدرس في المرحلة الإعدادية وقفزه من شباك الفصل بالدور الأرضي إلى الفناء الخلفي. تسلقه السور بخفة قط وترقيص جذعه قبل القفز إلى الشارع وقُبيل أن يحول المدرس -المشغول بالكتابة على السبورة- وجهه نحو التلاميذ ليكتشف المكان الخالي.
تزعمه شلة المشاغبين في الثانوية واختباؤه في كشك عم غريب لاحتساء السحلب شتاءً والشاي صيفًا. دوره المهم في مباريات كرة القدم المدرسية. كان قادرًا على حشد جمهور يشجع فريق مدرستنا بلا هوادة.
يقف في منتصف الحوش ضاربًا الطبلة الكبيرة المعلقة في رقبته بيسراه بكل قوة، فيتقاطر حوله الطلبة، فإذا ما رضي عن العدد خرج بهم إلى استاد المدينة الرئيسي فينضم إليه بعض مشجعي الكرة من الأهالي، ومع كل هدف يسجله فريقنا يعلو صوته (سلام مربع للجدعان). كان مخلصًا بحق.
وفي المرحلة الجامعية؛ بهرنا بإتقانه الغناء والعزف على العود، وفاجئنا بقيادته للمظاهرات. وبقدر مهارته في إيقاد جذوتها، بقدر خيبته في الإفلات من قبضة المخبرين المندسين وسط الطلاب. وعندما كنا نزوره في محبسه بالطعام والسجائر تظنه عمر الشريف في فيلم (في بيتنا رجل)، أو الطالب الثائر (على) في (القاهرة ٣٠). كان مخلصًا لقضاياه.
انقطعت أخباره بعد الجامعة لفترة، زعم فيها البعض أنه تطوع في الجيش العراقي وقال آخرون بل صار أحد قيادات حزب البعث، وأقسم البعض أنه المستشار الخاص للرئيس الركن صدام حسين، أخبار اختلطت فيها الحقيقة بإشاعات صنعتها طبيعته المتمردة. وإن بقي شطر اعتقاله لسنوات على خلفية شبهات نشاط سياسي خافيًا على الكثيرين، وهناك فقد وظيفته وقدرته على الوقوف من دون عكاز.
ما زالت صورته بالأبيض والأسود في نهائي مسابقة الكاراتيه المدرسية محفورة في ذاكرتي، اقتنصها سمارة بعدسة أظهرت ساقه المفرودة حذاء رأس خصمه، مُقلدًا بروس لي أسطورة الكاراتيه، عُدنا يومها تغمرنا السعادة، تعشينا في مطعم محسوب؛ فول كهرمان وطعمية أشهى من الكباب، تخاطفنا ليلتها شرائح البصل بالخل والباذنجان بالثوم والفلفل الحار، كانت تكلفة أفراحنا بسيطة، ما لها اليوم باهظة الثمن، هذا إن وجدناها!!.
كان قد مضي أكثر من ثلاثين عامًا على آخر مرة التقيته، انتهز عبد الله الراوي قرب حلول عيد الأضحى وتواصل مع الجميع. يسافر من يسافر، ويغيب من يغيب، ويظل الراوي وتدًا ثابتًا في بطن الأرض. "نتقابل الساعة سبعة على قهوة العسال"، أخبرني الراوي عبر الهاتف.
تقاطر الأصدقاء وتوالت الأحضان والسلامات وراحت الحلقة تتسع شيئًا فشيئًا، مرة مقدار كرسي ومرة كرسيين. كان الرأس المشتعل شيبًا العامل المشترك بين الجميع. سمارة بطوله الفارع وانحناءة كتفيه، الطوخي وجسمه الممتليء القصير، البيلي وبشرته الناصعة البياض، الراوي ونظارته السميكة، عارف بشعره الخشن ونظارة بإطار فضي لامع، حسونة بصلعة تُقسم معها أن شَعره الكثيف في صباه محض إشاعة، وفي الزاوية جلس شرقاوي بجسد كهل وعيني قط بري متحفز.
دارت صواني الشاي بالنعناع والقهوة المحوجة، سحب الطوخي سيجارة من العلبة وأشعلها، مد عارف يده إليها وأشعل سيجارة أخري بعد ما مررها بين إصبعيه الرفيعين ودق كعبها على الطاولة عدة مرات، علق سمارة متهكمًا (اللي فيه طبع)، هز عارف رأسه وقال مبتسمًا (كانت أيام.. ولا كان فيه زي تعميرة فليفل)، ضحك الجميع وترحموا عليه.
استرجعنا سنوات الصبا والشباب، المواقف الطريفة، وأخرى صعبة حولها الزمن لنكتة. من كان يصدق أن ما عشنا لأجله من شقاوة صار ماض نَصِفَهُ بالعبط. يا للهو السنين بنا.
كان شرقاوي نجم السهرة بلا منازع، جري نهر حكاياته سلسًا، يشعل حكاية من عُقب أخرى، وما زال لديه المزيد، لم يترك أحد في الجلسة إلا وذكر له موقف أو موقفين، وكعادته لم ينس نفسه، حكى ومَثل وقلد وتهكم.
انقبض صدري ونحن نستعد للانصراف، خشيت ألا نلتقي ثانية، تمنيت لو نسي الزمن طبعه المعاند واكتفي بما مضي من أحزان وآلام وترك لنا ما حصدناه من ضحك وما بلغناه من صفاء.
وقف سمارة أمامنا لالتقاط صورة (سيلفي)، اتكأ شرقاوي على عكازيه مُجاهدًا الوقوف، ثم لمعت عينا سمارة وخاطب شرقاوي؛ (يا للا يا شرق .. حركة بروس لي)، شعرت بالحرج وخشيت أن تجرحه كلمات ذكرته بعجزه، لكنني فوجئت بشرقاوي يلقي عكازه الأيمن للبيلي فيلتقطه معقبًا (حلاوتك يا شرق)، ثم يميل بجذعه مُتكئًا على عكازة الأيسر وبصعوبة بالغة رفع ساقه اليمني عدة سنتيمترات ومادًا ذراعه على استقامتها مصحوبة بصيحة كاراتيه قوية رسمت على وجهه علامات تحدٍ وقوة، زم حسونة شفته السفلي وأطلق صفارة إعجاب قوية. علا تصفيقنا. فيما تتابع متسارعًا وميض فلاش كاميرا موبايل سمارة.