قادت أوروبا وأمريكا الثورة الصناعية العالمية أوائل القرن الثامن عشر، تجلت مشاهدها في ملامح عمال المناجم الملطخة بالسواد. السيور الطويلة المحملة بقطع الفحم والممتدة من مجمعات التخزين إلى فوهات أفران لا تشبع. المداخن الشاهقة أقلام فحم تكتب تاريخ الحضارة الكربونية. القطارات الضخمة وحوش تفترس البيئة.
ما إن طفا البترول على السطح، حتى تسيد هو ورفيقه؛ الغاز الطبيعي، واجهة مشهد الطاقة العالمي، وإن ظل الفحم المصدر العالمي الأول لإنتاج الكهرباء.
بحلول أوائل تسعينيات القرن الماضي، انتبه العالم للشأن البيئي وأُعلنت اتفاقية الأمم المتحدة المبدئية للتغير المناخي، المعروفة اختصارًا UNFCCC، بمدينة ريو دي جانيرو في البرازيل عام 1992، مستهدفة تثبيت تركيز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي عند مستوى يحول دون التدخل البشري الجائر في النظام المناخي.
بعدها بخمس سنوات، نصت معاهدة كيوتو على التزامات قانونية للحد من انبعاثات غازات الدفيئة؛ ثاني أكسيد الكربون، الميثان، أكاسيد النيتروجين والكبريت، والفلوروكربون، علاوة على موافقة الدول الصناعية الكبرى خفض انبعاثاتها من تلك الغازات بمقدار 5,2% مقارنة بمستويات عام 1990، خلال مدة تبدأ من عام 2008 حتى 2012.
منذ ذلك التاريخ، وأوروبا تهندس مستقبل العالم ضمن أُطر تتوافق مع المناخ وتخفض البصمة الكربونية، خاصة بعد اكتساب العمل البيئي زخمًا سياسيًا تمثل في ظهور أحزاب أوروبية خضراء، أشهرها حزب الخضر الألماني، انضوت جميعها تحت راية الحزب الأخضر الأوروبي.
في الجانب الآخر من العالم، تعاملت أمريكا مع البيئة بمبدأ المصلحة أولاً. شكك رؤساء الحزب الجمهوري في تغير المناخ؛ جورج بوش الأبن، ورفضه اتخاذ التزام محدد، دونالد ترامب وتشكيكه في تغير المناخ ثم إعلانه انسحاب أمريكا من اتفاق باريس للمناخ. بنظرة مغايرة تبنى الحزب الديموقراطي نمطًا صديقًا للبيئة قاده آل جور، نائب الرئيس الأمريكي في التسعينات، فالرئيس باراك أوباما، ثم حاليًا جو بايدن، ومعاودة الانضمام إلى اتفاقية باريس.
زخم كبير ترجمته القارة الأوربية في أهداف طوعية وأخرى إلزامية لخفض انبعاثات الكربون، آخرها صيحة صفر انبعاثات أو ما أطلق عليه الحياد الكربوني. فجوة كبيرة بين ضجيج أوروبا الإعلامي ودعمها المادي للدول النامية.
بانخفاض معدلات الطلب على الطاقة تأثرًا بتداعيات فيروس كورونا، انخفضت بالتبعية انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنحو 7%، مقارنة بعام 2019.
كم طحنت أوروبا نفسها. معظم شرارات الحروب العالمية أوقدتها أوروبا. الحروب الصليبية (1096 – 1291). حروب إسبانيا مع دول الغرب الأوروبي (1566 – 1648). حروب الإمبراطورية الرومانية مع دول الشمال الأوروبي (1618-1648). الحرب العالمية الأولي (1914 – 1918). الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945). ثم ها هي تعاود النفخ في شرارة حرب لم تترك فردًا في العالم ولم تؤثر عليه.
لم يكد العالم يلتقط أنفاسه ويتلفت بحثًا عن شعاع أمل، حتى حولت الحرب الروسية الأوكرانية تأمين واستدامة امدادات الطاقة إلى كابوس. روسيا، خزان غاز أوروبا، تدك أوكرانيا بالصواريخ، وتساوم العالم بحفنة قمح، وتتلاعب بأوروبا على إيقاع الغاز.
سارعت المفوضية الأوروبية بوضع خطة طوارئ لإمدادات الطاقة من ثلاث محاور؛ ترشيد استخدامات الطاقة، وتنمية مشروعات الطاقة المتجددة، وتنويع موردي الغاز والنفط.
تستطيع أوروبا استيعاب صدمة امدادات الطاقة صيفًا، أما الشتاء فصعب. واربت ألمانيا عينيها عن المناخ ورفعت مستويات تشغيل محطات الفحم، ووضعت خطط تشغيل محطات الطاقة النووية وانتاج الغاز الصخري على الطاولة.
في معارك إثبات الذات تفرض غريزة البقاء قوانينها. ضاقت خيارات أوروبا، ووقعت بين مطرقة الطاقة وسندان المناخ، فهل تصمد.