
غيرت الحرب العالمية الثانية المشهد العالمي، غربت قوى وأشرقت أخرى، تقدمت أمريكا المشهد، وانزوت بريطانيا بمستعمراتها التي لم تكن تغرب عنها الشمس في أركان الكرة الأرضية الأربع ومن خلفها فرنسا. شُطرت ألمانيا في إشارة إلى تقسيم العالم إلى شرقي موال للاتحاد السوفيتي، وغربي بزعامة أمريكية.
غريب أمر هذا العالم، ما إن تنتهي حرب، حتى ينهمك في الإعداد لأخرى، بانتهاء الحرب العالمية الأولي نوفمبر 1918، تململت القوى العالمية حتى انفجرت في الحرب العالمية الثانية سبتمبر 1939، فما أن وضعت أوزارها في سبتمبر 1945، حتي تلتها حرب باردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي، انتهت بتفكك الأخير في ديسمبر 1991.
على هامش زيارة عمل لمدينة العلمين، سمح الوقت بزيارة مقابر الجنود الإيطاليين الذين قتلوا في الحرب العالمية الثانية، أكثر من أربعة آلاف لوحة رخامية مربعة رُصت إلى جوار بعضها البعض كاسيةً جدران المقبرة من الأرض حتى السقف، كُتب على كل منها اسم أحد الضحايا الإيطاليين، الرتبة يليها اللقب فالاسم. تاريخ الوفاة لا يهم. فقط الأعزاء يسجلون التاريخ بالساعة واليوم والشهر والسنة، بينما يكتفي المؤرخون بأعداد الضحايا دون تاريخ.
في الجوار، دُوِنَ على العديد من اللوحات كلمة واحدة بالإيطالية، "IGNOTO"، أي "مجهول"، لا رتبة ولا لقب ولا اسم. ربما كان إيطاليًا وربما كان حليفًا أو عدوًا، يظل في النهاية إنسان دفع ثمن قرار الحرب.
كلاهما؛ المعروف الاسم والرتبة والمجهول الاسم والهوية، صنع تاريخ النصر والهزيمة. التاريخ يكتبه الإنسان، معروفًا كان أو مجهولاً.
في روايته (لا أحد ينام في الإسكندرية)، يسجل إبراهيم عبد المجيد وقائع الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا حرب العلمين، من خلال شخصيتين رئيسيتين الشيخ مجد الدين القادم من الدلتا ودميان المنحوت من صوان صعيد مصر، جمعهما العمل في مكتب بريد السكة الحديد بسيدي جابر، ثم انتقالهما معاً لمكتب مطروح.
في وقت الأزمات يُلح التقارب الإنساني ويبدو البوح سفينة أمان. يزداد تقارب الصديقين ويكتشفا -على إيقاعات الحرب- معانٍ أخرى للحياة، تشوب أفكارهما نظرة فلسفية عميقة رغم بساطة مفرداتهما. صقلت الحرب المجنونة خبراتهما الحياتية ولم تمهلهما فرصة العودة سالمين إلى الإسكندرية بعد قصف مكتب بريد مطروح، فعلى إثر غارة ألمانية لقي دميان حتفه ليعود مجد الدين وحيدًا مع أحزانه.
أهلكت الحرب العالم، لا فرق بين مواطن أوربي يقيم في عواصمها، أو سكندري مقيم بالإبراهيمية. تقول الحكمة الصينية، (رفيف فراشة في الصين كفيل بإطلاق إعصار في أمريكا)، ما يحدث في أحد زوايا العالم يمتد تأثيره للجميع.
ذات الصفات الإنسانية في الإسكندرية وأوروبا، فالحرب هي الحرب والإنسان هو الإنسان؛ التكدس في الملاجيء، التقارب الإنساني، التمتمة بالابتهالات، الفرحة بالنجاة، دوي سيارات الإسعاف، ارتفاع ثمن السلع الأساسية واختفاء بعضها، الإشاعات تملأ المدينة. تمامًا مثلما يحدث اليوم في كييف وبغداد وكل عواصم الصراع غير المبرر.
يعم العالم الآن اضطراب جراء الحرب الروسية الأوكرانية، ويحبس أنفاسه مخافة انزلاق الصين وتايوان. هناك دول تتمشى على خريطة الكون حاملة البنزين بيد، والنار باليد الأخرى، وكأن بقائها مرهون باستمرار الصراعات العالمية.
ربما تقع مسئولية إشعال شرارة حرب على طرف واحد، لكن إطفائها مسئولية الجميع.
وليتذكر العالم قبل الضغط على الزناد ضحايا الحروب وتلك النُصب التذكارية التي تخلد ذكرى الإنسان الذي حمل بندقيته ًا فأسه خلفه، أو كراسات التلاميذ تنتظره حتى يعود، أو ماكينته في المصنع يعلوها الصدأ، فتحول إلى لوحة رخامية ربما تحمل رتبته واسمه، أو يكتفي بكلمة واحدة "مجهول".