كان مشهد انكسار مغني الربابة في رواية "زقاق المدق" للراحل نجيب محفوظ، وهو يهم بدخول المقهى فيصده المعلم ويخبره أنه استغنى عن خدماته بعد ما اشتري مذياعًا، مشهدًا مؤثرًا أشار في طياته إلى تآكل فرص العمل مع تقدم التكنولوجيا.
لعقود طويلة ظل مغني الربابة أحد أدوات جذب زبائن المقاهي، يعطر المناسبات الدينية بالابتهالات والتواشيح، ويروي لرواده السير الشعبية من قبيل حكايات أبو زيد الهلالي سلامة، وملاعيب علي الزيبق، وسنقر الكلبي، وملحمة عنترة بن شداد.
تداعى المشهد على ذاكرتي مع قراءة افتتاحية كتاب "عالم بلا عمل World Without Work" الصادر عام 2016 عن جامعة ريتريت Retreat بولاية إلينوي الأمريكية، ضم بين دفتيه مقالات لأكاديميين متخصصين.
يستهل الكتاب فصل كتبه ستيفن ماكمولن، بعنوان "استحالة عالم بلا عمل وتحدياته The Impossibility and Challenges of a World Without Work" بمشهد بدء شركة جوجل تجاربها على السيارات ذاتية القيادة عام 2009، كانت النتائج مبشرة، فبعد قرابة مليوني ساعة اختبار لم تُسَجِل أي من سياراتها مخالفة واحدة، فيما رجعت أسباب كافة حوادث التصادم إلى بشر.
وعلى غرار ما حدث في رواية "زقاق المدق"، تخيلت يومًا يعود فيه سائق إلى منزله دامع العينين بعد ما أخبره صاحب الشركة باستغنائه عن خدماته بعد ما اشتري سيارة ذاتية القيادة.
وفي ضوء ما أحدثته التكنولوجيات الحالية من إزاحة للكثيرين من أعمالهم، يساور الجميع قلق أن تأتي الموجة التكنولوجية القادمة على ما تبقى من فرص عمل، يُزيح فيها الروبوت البشر جانبًا ويتولى المهمة بدلاً منهم.
صاحب الشعور بالقلق من ارتفاع معدلات البطالة جراء دخول الآلة محل الإنسان، (الأتمتة)، كافة مراحل التطور. قلصت ماكينات الحصاد الزراعية الأيدي العاملة، فغاب صوت عبد الوهاب مغنيًا (القمح الليلة/ الليلة/ ليلة عيده...)، وصوت شادية الرائق يغني (والله/ إن ما اسمريت يا عنب بلدنا،..). وسَرَحَتْ آلات النسيج عمالاً غنى لهم عبد الحليم حافظ (بدلتى الزرقا..).
وبلا شك، ترك كل تطور بصمته على سوق العمل؛ ظهرت وظائف جديدة، وأخرى تغيرت هيكليتها تحركت معها فرص العمل نحو قطاعات على حساب أخرى، ولوحظ زيادة معدلات توظيف النساء مع التقدم التكنولوجي. أيضًا، أدى ارتفاع مستويات الانتاجية لنمو قطاع الخدمات.
ومع كل نقلة تكنولوجية نجد نظرتين متناقضتين للمستقبل، يراه المتفائلون أكثر تقدمًا وراحة مع مستوى معيشة مرتفع للجميع، حتى الفقراء سوف يحصلون على خدمات أفضل. ويراه المتشائمون انتقائيًا، بمعني استفادة فئة على حساب الآخرين.
بمراجعة التاريخ، يؤكد ماكمولن، أن سبب تحول فئات عديدة نحو القطاع الصناعي وما واكبه من تطور تكنولوجي يرجع لاختراع آلات الحصاد الزراعي، ويضيف منبهًا أن عجز الكثيرين عن اللحاق بركب التطور حبسهم في شريحة الفقر.
مثال آخر، راجع فرص العمل التي فتحتها ثورة الاتصالات، وخاصة بعد دمج الإنترنت مع باقي القطاعات، حيث صار لدينا أسواق افتراضية تمتد في جوانب الكرة الأرضية الأربعة، ومكتبات مفتوحة على مدار الساعة بكافة اللغات، فضلاً عن شرائح قطاعات الخدمات الافتراضية مثل؛ حجز الفنادق، السيارات، الرحلات، التعليم عن بعد، التطبيب عن بعد، حتى الخدمات الاستشارية صارت عن بعد. ولم تكن هذه النقلة لتحدث لولا ثورة الاتصالات.
وسواء كنا متفائلين أو متشائمين حيال مستقبل فرص العمل، يظل الثابت أننا في حالة تحول تكنولوجي دائم يقترن به تغير في هيكلية الوظائف، ومن ثم لا مفر من التفكير المستمر حول مستقبل فرص العمل، مخافة أن يصيبنا ما أصاب مغني الربابة.