تلقيت تعقيبات عدة على مقال الأسبوع الماضي، "مغني الربابة وعالمٌ بلا عمل"، تفاوتت فيها الرؤى ومراتب القلق. ولعل الفقرات التالية تجيب على بعض أسئلة وتتفاعل مع كثير تعقيبات.
أصدرت جامعة ريتريت Retreat بولاية إلينوي الأمريكية كتاب "World Without Work" عام 2016 بهدف استشراف المستقبل وتقديم ورقة عمل لمتخذ القرار الأمريكي ليتحسب مبكرًا لتحولات الأسواق؛ إزاحة الحاسبات لبني البشر، وظهور تكنولوجيات جديدة قد لا تستطيع العديد من الفئات التعامل معها فتنضم لطوابير العاطلين رافعةً كُلفة فاتورة الغطاء الاجتماعي.
ربما رأي البعض في أفكار الكتاب بعض خيال، أو بُعدًا عن الواقع المعاصر، لكننا لا نلبث حين نفكر فيها أن نجدها تمس حاضرنا مسًا يختلف من تخصص لآخر. أدناه التغيرات الكبيرة في أسواق العمل جراء طفرات الإنترنت، وأعلاه اضطراب البناء الاجتماعي على نحو يصعب إدراك تفاصيله.
حتى إذا سلمنا أن الكتاب يضع فرضية خيالية لعالم تسيطر فيه أجهزة الحاسبات والماكينات المبرمجة (روبوت) على الوظائف، عالم يتحول فيه الإنسان إلى ضيف ثقيل، بطيء التعلم كثير الالتباس، إلا أن إيجابيات أمثال هذه الفرضيات يكمن في تدريب الذهن وحثه على ابتكار حلول مرنة، فيعتاد استشراف المستقبل وطرح البدائل.
من هنا، تبدو أمثال هذه الفرضيات أمرًا طبيعيًا في مناخات اعتادت التفكير في الهواء الطلق؛ لا أسوار ولا سقف. بيئة تراوح النظر تارة من الداخل، وأخرى من الخارج. وتُربة تتمسح سيقان أفكارها في سُحبِ الأسئلة وتسافر جذورها في الأركان الأربعة.
طلب الرئيس الأمريكي رونالد ريجان (1911–2004) إعداد تقرير عن مستوى التعليم في أمريكا، فما أن انتهت اللجنة المؤلفة من 18 خبيرًا حتى رفعت تقريرها إليه –دون مساحيق تجميل- معنونًا "أمة في خطر A Nation at Risk". ضَمَنَتهُ تشخيصًا علميًا كشف أسباب تأخر التعليم الأمريكي عن نظيره بالعديد من الدول الأوربية والآسيوية، مع توصيات لتصحيح المسار.
لم تدافع المؤسسات التعليمية الأمريكية عن نفسها، ولا اتهمت اللجنة بعدم المصداقية وغيرها من مصطلحات التهديد التي يبدع فيها العاجزون. بهدوء، راجعت المؤسسات استراتيجياتها وخطط عملها واسترشدت بالتقرير في اتخاذ اجراءات إصلاحية ناجزة. في المقابل، راحت صحف بعض الدول النامية تتهكم على نظام التعليم الأمريكي، وانتفخ ذوو الياقات البيضاء قدر استطاعتهم أمام عيون كاميرات كفيفة يُشِيدون، ويمدحون، ويمجدون، ويقدسون نظم تعليمهم البالية. ينجزون بالكلام ما عجزوا عنه بالعمل.
اليوم، وبعد نحو أربعين عامًا من صدور التقرير، تصدرت الجامعات الأمريكية المراكز المتقدمة عالميًا وصارت الأكثر حصولاً على منح. في إشارة لمستوى الثقة بها وحسن إدارتها. تتجاوز أصول بعضها ميزانيات دول.
بالعودة إلى كتاب (عالمٌ بلا عمل)، يوصي أحد المشاركين في إعداد الكتاب الحكومات بالعمل على محورين رئيسيين لمجابهة التطور المتسارع للتكنولوجيا، الأول الاستثمار في البشر من خلال قطاع تعليم يعي تمامًا صعوبة التنبؤ بالتطورات التكنولوجية، وأن الطالب الذي يتلقى علومه اليوم سوف يواجه مجالاً جديدًا لم يسمع عنه في الغد. يحتاج الطلاب تعلم سبل اكتساب مهارات التطوير وتيسير التحول تجاه التكنولوجيات الجديدة والتوائم معها، عدا ذلك يصبح خريجًا فاقد الصلاحية يُضاف إلى قائمة العاطلين.
المحور الثاني، صياغة نظام اجتماعي قادر على حماية الأفراد، نظام متين عماده مؤسسات قوية، وأطر قانونية شفافة، وسياسات تحفيز مرنة، ونظام تعليم فني متطور، يعمل تحت مظلة تأمين صحي وإعانات بطالة كفيلة بحماية هذه الفئات. تحديات لا تقل عن تحدي تدبير الموارد المالية اللازمة لتحقيق ذلك.
تُري هل يطور مغني الربابة أدواته أم يعتكف في ماضيه. غدًا نعرف.