لسبب غير معلوم، على الأقل لدى، رجعت إلى قراءة أيام طه حسين، لا أنكر أننى كنت أقرأها مشدوهاً كأنها المرة الأولى التى اكتشف فيها عميد الأدب العربى، رواية كتبها في سبعة أيام وقرأتها من قبل مراراً وتكرارا، مرة ضمن قراءاتي أعلام الفكر والثقافة، ومرات وقت تضمنها منهج اللغة العربية في المدرسة الإعدادية.
لكل كاتب أسلوبه الخاص به، تماماً مثل بصمة الإصبع أو العين، غير قابل للتكرار، ربما قَلد البعض ولكن يبقى الأصلُ فريداً معبراً عن توليفة تراكمت عبر سنوات العمر يضاف إليها في كل يوم شيئاً من أثر بيئة مُعاشة وأخرى محيطة، وبعضاً من تعليم، ونتفاً من تقاليد موروثة، وكثيراً من روح الكاتب نفسه. ربما تتشابه بعض ملامح، بين الأصل والتقليد، لكن الأول يظل عصياً في كثير من أسراره.
تقرأ للعميد فتكتشف أنك، ودون أن تدرى، قد جلست على حافة نهر يتدفق ماءه في انتظام كأنه لا ينتهى، عذباً كأنه لم يعرف شيئاً من مِلح، رقراقاً كأنه فارق الشوائب أو قل هي فارقته، منتظماً كأنه لا يعرف الانقطاع، قريباً كأنه صوت يأتيك من داخلك أو أنك تتحدث مع نفسك في ليالي الشتاء والوحدة، متنوعاً كأن عباراته مزيج بين قصيرة بالغة القصر أو طويلة غير مفرطة، مهذباً كأنما فرغت اللغة من كل لفظ سيء وغريب، سهلاً كأنك تستطيع الإمساك بالقلم ومحاكاته.
يُدخلك الدكتور طه إلى عوالم طفولته فإذا أنت تخبأ رأسك تحت اللحاف خوفاً من العفاريت التي لا تكف عن التطواف بالبشر النائمين عسى أن تجد أحدهم وقد انكشف الغطاء عنه فتعبث به ما شاء لها الله أن تعبث فيستيقظ وقد أصابه شيء من هَمٍ أو تعب لا يدرى له سببا فيعلم أنه كان لعبة في يد عفاريت الليل.
ويحكى لك عن ليالي قضاها مؤرقاً، وما أكثرها، أحياناً لجَلَبة تعم الرَبع الذى يقيم فيه، أو حنيناً إلى قريته التي فارقها طفلاً يحمل في صدره حلم أبيه، بأن يصير شيخاً بالأزهر، صاحب عامود يتحلق حوله طلاب العلم يستمعون إليه وينقلون عنه ويرجعون إليه، ولكن ما أكثر الليالي التي قضاها (صاحبنا)، وهى الصفة التي استخدمها الكاتب للكناية عن نفسه في الرواية، خوفًا من الجن والعفاريت يسترجع في وحدته ما حفظته ذاكراته من أساطير.
ثم ها هو يقص عليك شيئاً من قصص كُتاب سيدنا ومساعده، عَريف يحفظ الأطفال على يديه في الصباح وقبل صلاة العصر تختلف معاملته لهم تِبعاً لما يهدونه إليه من طعام بسيط يحملونه معهم ليتقوتوا به متى جاعوا، وكيف أقسم سيدنا على والده بأغلظ الأيمان بأن صاحبنا ما نسى القرآن إلا لأنه، سيدنا، لم يحصل على حقه المعتاد والمعروف عندما ختم الصبى القرآن، فأنساه الله القرآن وأن ليس من سبيل إلى أن يتذكر ما نسى إلا بحصول سيدنا على ما يريد، جنيه أحمر، وجِبَة، وشيئاً من غَلة الأرض؛ أرز وقمح.
ما أن انتهيت من أيام صاحبنا حتى وجدتني أقرأ روايته شجرة البؤس ثم أُتبعها بالمعذبون في الأرض وفى كل منهما أطالع عذابات ليله المؤرق وعيناه العصيتان على الإغماض وأساطيره التي لا تغادره ولا يغادرها، تماماً كما كان جابريل جارثيا ماركيز، أو جابو كما اعتاد أصدقاءه أن ينادونه، فكلاهما، صاحبنا وجابو، صنعت منهما الأساطير والبيئة كاتبين عظيمين، جعلت من الأول عميدًا للأدب العربي ومن الثاني عميدًا للأدب الإسباني وحائزًا لجائزة نوبل في الآداب.