في يوليو 1959 ترأس نائب الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، وفد بلاده في زيارة للاتحاد السوفيتي. صاحبه فيها ممثل مجلس الوزراء السوفيتي آنذاك، نيكيتا خروتشوف. لم تدخر أمريكا جهدًا. حضرت بكل قوتها الناعمة. تعمدت إبهار الروس القابعين في كهوف الشعارات والآمال المؤجلة، زرعت شوكة شغف الاستهلاك في حلق كل روسي لتُذكره دائمًا أنه في الجانب الخطأ من العالم، وأن شعارات فلاديمير لينين وكارل ماركس لا تصلح سوي لحلقات النقاش والسفسطة حول كؤوس الفودكا وتدخين لفافات التبغ الحريفة.
لم تعرض أمريكا دبابة ولا مدفع ولا بندقية، تأبطت القوة الناعمة وهاجمت روسيا في عقر دارها، منتجاتها في يد والوجبات السريعة في يد.
تنوعت المعروضات الأمريكية بين أدوات كهربائية حديثة تومض باللمس، ولعب أطفال جميلة وجذابة تعمل بالبطاريات خلاف نظيرتها الروسية الثقيلة الوزن والدم. علب مساحيق أنيقة وأدوات تجميل تضع مسحة جمال لا تنسي على خد كل روسية. وكاميرات تصوير فورية لتسجيل تذكارات لا تُنسى. كانت جميعها من أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا.
منذ زارا المعرض سويًا، ومثل الكثيرين من الروس، تتأمل ناتاشا بقلق وجه ألكسندر ناصع البياض المشرب بحمرة وسوالفه الطويلة العريضة وشعره الأشقر المجعد. يضرب الطاولة الخشبية بقبضته القوية خلال جدالاته الثقافية في الأمسيات الممطرة. كشفت أكمام قميصه القصيرة عن ساعدين مفتولين صقلهما العمل في المصانع البعيدة. يعتمل في صدريهما صراع داخلي. شعارات الطبقة المتوسطة، والجنة الموعودة. بينما يلامسان في الواقع الحلم الأمريكي بإبهاره. وحين كانت ناتاشا تضع رأسها على الوسادة تُغمض عينيها وتطلب أمنية، كما علمتها جدتها، كانت تتمني طقم أدوات تجميل أمريكي.
في عام 1969 تولي نيكسون الرئاسة، ثم غادر على خلفية تورطه في فضيحة (ووترجيت)، لم يغفر له الشعب الأمريكي كذبه. وفي الجانب الآخر، لم يغفر جنرالات الجيش الروسي لنيكيتا خروتشوف مرونته مع جون كيندي. عزلوه وألقوا به في جِب النسيان.
عالميًا تتنوع صور القوة الناعمة، نجح الإيطاليون في وضع البيتزا على مائدة العالم في الوجبات الثلاث، واستطاع الفرنسيون جعل العالم يستمتع بقطع الكرواسون هلالية الشكل، مقرمشة السطح، مع رشفات القهوة باللبن. أُضيف تعبير (كافيه أو ليه) إلى اللغات كافة. وغزت أمريكا العالم بالهامبرجر، والكوكاكولا، وسراويل الجينز. وغرق العالم في محيطات الاستهلاك.
ألزمتني الصدفة ذات مرة مجاورة سفيرة كولومبيا بالقاهرة في أحد المناسبات الرسمية. تتواجد المساحات المشتركة لامرأة تحترف السياسة ورجل ينتمي إلى فئة التكنوقراط خارج نطاق عمل كل منهما. كان ماركيز محور حديثنا المشترك. تَحدَثَت عنه بفخر. وحدثتها بإعجاب عن رواياته التي قرأت، (مائة عام في العزلة)، (الحب في زمن الكوليرا)، (ليس لدي الكولونيل من يكاتبه)، (خريف البطريرك) وغيرها. مبتسمة تناولت حقيبة يدها واستلت كتابًا أنيقًا، ثم أهدتني إياه، رواية (الجنرال في متاهة)، ثم عقبت مبتسمة (دائمًا ما أحمل أحد روايات ماركيز في حقيبتي).
كانت على يقين أنه سيكسر حاجز الثلج مع رفاق الطاولة وفتح أبواب حوارات عديدة. مهد الطريق لصداقات طويلة. غلبت صورة كولومبيا ماركيز على كولومبيا إسكوبار، إمبراطور تجارة المخدرات.
تتشابه نهايات أحداث رواية (الجنرال في متاهة)، مع خواتيم حياة نيكسون وخروتشوف. نهايات سياسية أليمة. سجل فيها ماركيز بلغة أدبية رفيعة رحلة نفي الجنرال سيمون بوليفار من العاصمة الكولومبية بوجوتا إلى أوروبا مرورًا بأمريكا. نهاية حزينة لرجل قضي حياته في تحرير بلدان أمريكا الوسطي، ليرحل تصحبه ذكرياته وحقيبته ووحدته.