يشهد عالم اليوم جملة من التحديات والتحولات سواء على صعيد الافكار او على صعيد الوقائع. من الاعلام المتعدد الاقطاب الى الادمغة الالكترونية التي تكاد تحل محل الانسان في الحسم او الحساب، ومن ثورة المعلومات التي حولت الارض الى قرية صغيرة او سوق واحدة، ومن الابجدية الحرفية للكتب الورقية الى الابجدية الرقمية للشاشات الضوئية.
مع كل هذه التغييرات والانقلابات تغيرت جغرافية العقل البشري مثلما تغيرت علاقات القوى وانماط العيش ومنظومات الاتصال التي لعبت دورها الفاعل في تغير المشهد الاتصالي الكوني.
ولا مبالغة في القول انه مع ظاهرة العولمة بدأ يتشكل عالم جديد بإنسان جديد من الممكن ان نطلق عليه مصطلح الانسان التواصلي ، الذي اصبح اليوم يعمل ويفكر على نحو عابر للقارات والثقافات عن طريق استخدام شبكات التواصل المعقدة والادمغة الآلية والتقنيات الرقمية.
لقد فتحت العولمة بإمكانياتها الخارقة، الباب نحو افاق جديدة للوجود والحياة .لكنها في الوقت نفسه شكلت تحديات ضخمة تقنية ، اقتصادية ، اجتماعية ، سياسية وغيرها خصوصا فيما يتعلق بإشكالية الهوية والخصوصيات الثقافية.
فما هو مستقبل الهوية الثقافية في عصر العولمة؟ وما هو دور الافكار والمبادرات الابداعية ضمن هذا الانفجار التقني الذي اجتاح العالم؟
ان واحدة من فضائل العولمة هو تحول الهويات من كونها متاريس عنصرية او ممارسات عقائدية الى بيئة للتلاقح والتفاعل او مجال للالتقاء او خلق ما يعرف بالهوية الكونية. فهي فعلا حدث كوني له ابعاده الوجودية من حيث انها خلقت واقعا تغير معه العالم بنظامه واليات اشتغاله ادى الى تغير واقع الحياة ومجالاتها الى فضاء سبراني بامتياز. وبما ان الهوية والثقافة هي مرجعية للدلالة ونمط للوجود والحياة لها خصوصيتها في كل مجتمع نجدها اليوم مقحمة في هذا العالم السبراني بسبب التدفق الهائل للعلامات والرسائل والصور التي تجوب العالم بمجمله على مدار الساعة. ان اشكالية الهوية في زمن العولمة اصبحت مدار سجال ونقاش في الاوساط الثقافية والدوائر السياسية ليس في عالمنا العربي فقط بل في خارجه ايضا، لما لذلك من تأثير عميق على مجريات الحياة وعلى مختلف الاصعدة اذ اصبحت هنالك خشية واضحة على الوعي والهوية والثقافة من الغزو والاختراق في حين ان ما حدث ويحدث هو قلب للأوضاع لا رجوع فيه للوراء لذلك فمن الاحرى ان نقرا ظاهرة العولمة لا بلغة التوجس والخوف ولا باللغة التعظيم والثناء بل بلغة التشخيص والتدبر والتعقل وتحويل ما يحدث من متغيرات وارهاصات الى افكار خصبة او اسواق تبادلية او مجالات اتصالية.
ان انسان اليوم يجد نفسه محاصرا بثلاثة عوالم لعبت دورها في تجاذب الوعي بالهوية
الاول: العالم القديم بأفكاره الماورائية واللاهوتية
الثاني: العالم الحديث بأيديولوجيته وفلسفاته العقلانية
الثالث: عالم العولمة بفضائه السبراني ومواطنه الكوني ، ومع الاخير بدأت تنقلب القيم والمفاهيم وتتغير الوسائل والقوى وطبيعة المؤسسات لفسح المجال لنشوء سياسات فكرية وممارسات معرفية تجاوزت ما كان سائدا في الماضي وهذا بدوره انعكس على الهوية الثقافية بإطارها العام. المثقف العربي المعني بمسالة النهوض والتغيير لا يسعه الا ان يخرج من الدائرة الخانقة التي كبلته بها النخب المثقفة طيلة عقود من الزمن ، لكي ينفتح على كل القطاعات والميادين ذات العلاقة بالوجود الانساني وتطوره كالأسواق المالية ، العمارة، المصارف، الشركات وعالم التكنولوجيا والتقنيات الذكية التي بدأت تستحوذ على مختلف نواحي الحياة بل اصبحت تشكل ما يسمى بصناعة الحياة وتشكيل العالم.
ان هويتنا هي ليست ما نتذكره وما نحافظ عليه وما ندافع عنه فقط بل هي بالأحرى ما ننجزه ونحسن اداءه اي ما نصنعه بأيدينا وما نشعله في عقولنا وما نرفد به العالم من خلال علاقتنا مع الغير. فالأفكار بطبيعة الحال تشتعل في الرؤوس وتتبلور عبر الصلة مع الاخر ثم تتشكل على ارض الواقع.
ان الاشكالية المطروحة في ما يتعلق بالهوية الثقافية هي ليست في اكتساح او اختراق العولمة لها بل هي في العجز عن قولبتها وتشكيلها ضمن سياق الاحداث والمجريات والظروف المحيطة بنا. لقد عجزنا عن عولمة هويتنا وعقلنة سياساتنا وكوننه افكارنا ومعارفنا. عجزنا لغاية الان عن خلق الافكار وتغيير الادوار لمواجهة تحديات للعولمة على مختلف الاصعدة. فنحن بحاجة الى ممارسة غزو مضاد عبر ابتكار صيغ وافكار او انتاج سلع او ادارة معلومات. اما الكلام عن الغزو والاختراق فانه خديعة للذات لأنه يجعلنا ننام على قناعتنا ونحافظ على ضعفنا وتراجعنا. ان ازمة الهوية العربية لا تكمن في محاولات اختراقها من الخارج بقدر ما تكمن بعجز الذات العربية خصوصا النخب من اصحاب المشاريع الايديولوجية عن صد الغزو والاختراق والتوسع عبر خلق الحقائق وانتاج الوقائع.
ان العولمة على الرغم من ايجابياتها الكثيرة الا ان لها مخاطرها وتحدياتها التي ينبغي اخذها بالحسبان.
فهل ثمة امكانية لتشكيل وعي كوني لاتقاء المخاطر المحدقة بالحياة والارض؟ ام اننا سائرون حتما نحو الفناء الذي يسطر نهاية التاريخ والوعي بالزمان والمكان؟
سؤال وتساؤل يبحث عن اجابة