يبتهج الكاتب بنشر مقاله، ويسعد عندما يجد له ثمة خشخشة تتردد في حيزه الضيق.
متنوعة هي ردود الفعل. تلقيت ذات يوم تعقيبًا لاذعًا عن مقال بعنوان (حلٌ آخر)، عرضت فيه لما يطرأ على البعض من تحولات فكرية لا تتوافق مع بداياتهم. جمعني وأحد زملاء الطفولة صفٌ دراسي واحد، في الوقت الذي كنا فيه نتلوى بحثًا عن حل مسألة رياضيات، كان هو يبهرنا بقدرته على عرض أكثر من حل. كعادته، سرقنا الزمن وباعد بيننا لسنوات طويلة حتى التقيته صدفة، جَرجَرنا الماضي من شعره ورحنا نضحك على ذكريات كثيرة استرجعناها من شقوق الذاكرة، على الهامش راعني تغيره إلى شخص لا يرى غير رأيه. أين ذهبت سعة أفقه وقت كان يرى لكل مسألة حلاً آخر.
عقب القارئ مهاجمًا ومسيئًا. تساءلت كيف أرد. وقلت حلٌ آخر. فكتبت أشكره على تفضله بمتابعة مقالاتي، وأثنيت على تخصيصه وقتًا للتعقيب، ثم أوضحت له فكرة المقال، وختمت ردي متمنيًا دوام التواصل. جاءني رده هذه المرة هادئًا معتذرًا عن سوء فهمه إذ استشعر في المقال تلميحًا بفئة دينية ما. ما كان أبعدها عن ذهن الكاتب وهو يصيغ فكرته.
تعليقات القراء نوافذ تُجدد هواء غرفة المقالات وبوصلة تحدد وجهة الكاتب.
في الأسبوع الماضي حظى مقال (البحث العلمي والقَزَاز) بعدة تعقيبات لكل منها قيمتها الخاصة.
(أليس من الأفضل إلزام الأكاديميين قضاء فترة ما في مجالات عملية ذات صلة بأبحاثهم)، عقبت قارئة فاضلة مشغولة بتقليص الفجوة بين ضفتي البحث والتطبيق، وتجنب إعداد بحث يُحبِرَ عدة أوراق لا يجد فيها الزارع أو الصانع -أو غير ذلك من أرباب المهن- ما يساعده على حل إحدى مشاكله، ووافقها في ذلك باحث في ألمانيا، ذكر أن الدراسات العليا ليست سوى مهمة بحثية لحل مشكلة عملية.
ذكرني هذا المقترح بما تضعه المؤسسات الدولية كشرط لتمويل الأبحاث؛ بأن يضم تحالف الباحثين جهات تنفيذية يمكن أن تستفيد من النتائج فضلاً عن توجيه مسار البحث نحو هدف يساعد في التغلب على التحديات العملية. اقتراح يستحق أن نفكر فيه ونضيف إليه إن لزم الأمر.
ودون صاحب فضل؛ أنه خلال إحدى زياراته الرسمية لأمريكا لفت انتباهه إعلان تليفزيوني يدعو كل من لديه فكرة أن يرسلها، لتتولى مجموعة متخصصة دراستها والنظر في إمكانية تحويلها إلى تطبيق عملي، وتحفيزًا لأصحاب الأفكار أشار الإعلان إلى مكافأة تتحدد قيمتها بحسب قيمة الفكرة ومدى إمكانية تنفيذها.
ذكرني ذلك، بالخليفة العباسي المأمون ابن هارون الرشيد، الذي جعل أجر المترجم وزن كتابه ذهبًا، فكان المترجم والطبيب حُنين ابن إسحاق يكتب على ورق سميك، فيشكوه عامل بيت المال إلى الخليفة، فلا يزيد الأخير أن يبتسم ويطلب منه أن يعطيه حقه معقبًا أن ما تحتويه الكتب المترجمة من أفكار وعلوم لا تقدر بثمن، مستكملاً نهج أبيه هارون الرشيد الذي سار على ما شرعه الخليفة أبو جعفر المنصور من حفاوة بالترجمة وعلوم الآخرين، كما أسس مكتبة عامة أطلق عليها (بيت الحكمة) جعلها بستانًا تحلق فيه أفكار الكتب المترجمة.
الأفكار بذور تحتاج تربة خصبة وبُستانيًا يراعي ما يعتريها من تطور، فما تحتاجه البذرة في أول عهدها يختلف عنه وهي شجرة سامقة قادرة على مد جذورها في كافة الاتجاهات واستخلاص الغذاء من التربة، ليس هذا وفقط بل تصبح فيئًا يستظل تحته كل مُتعب وموطنًا للطيور وعالـمًا فسيحًا يقيم فيه دود القز ممالك من حرير يرعاها القَزاز الماهر فيحولها إلى ثروة قبل أن تُفسد نفسها بنفسها.