
ما المقصود بالثقافة العلمية؟، وما علاقتها بالمجتمع؟، وكيف نُقيم منهجًا يقاس عليه؟، وردت هذه الأسئلة تعقيبًا على مقال الأسبوع الماضي (الثقافة العلمية وخيام القبيلة).
أعادتني الأسئلة إلى أحد مقالات الدكتور زكي نجيب محمود (1905 – 1993)، ذكر فيه شروعه تعليم الخادم أبجديات القراءة والكتابة بعد ما لاحظ أميتها، وبينما هم جلوس يشاهدون التليفزيون، أشارت نحو الشاشة المدون عليها اسم أحد البرامج، وقالت بملامح من حقق كشفًا هامًا؛ (قاف، هذه قاف).
وببراعته الفلسفية واستاذيته في فن كتابة المقال، التقط أستاذنا الخيط، وراح يقارن بين أشكال الحرف العربي في أول، ووسط، ونهاية الكلام؛ اختلاف رسمه واتفاق جوهره، مع شرح للتفكير العلمي في الاستدلال عليه، ثم تعميمه ليصبح منهجًا يلازم صاحبه سواء أكان يقوم بعمل روتيني بسيط أو يتخذ قرارًا مصيريًا، فتراه بعفوية مطلقة يحصر ما حوله من معطيات ومؤثرات، ثم يفرزها ويصنفها ويرتبها، تمهيدًا لإخضاعها لمجموعة من المباديء تصل به إلى القرار النهائي.
ويرى الدكتور فؤاد زكريا (1927 – 2010)، في كتابه (التفكير العلمي) أن الإنسان العادي "يمارس التفكير العلمي حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة، ولم يدرس مقررًا علميًا واحدًا طوال حياته".
ويتشكل التفكير العلمي في رأي الدكتور زكريا من مزيج بين الخبرات العلمية والعملية تصهر وتتراكم بعضها فوق بعض، مع خضوعها لآلية تنظمها وتربط بين مفرداتها، بحيث يمكن استدعاء تجربة بعينها أو استنتاج ما يناسب كل حالة، من هنا يُعوِل على منهجية عمل عقولنا الأقرب إلى التلقائية والعفوية منها إلى التنظيم الذي يحتاجه التفكير العلمي وتُصقله التجربة، ضمن إطار يرسخ من دور اليقين ويتجنب الهواجس والظنون.
على الجانب المقابل، تعد الخرافة والأسطورة أكثر ما يعرقل التفكير العلمي؛ فالخرافة تنكر العلم بالكلية، بينما تحتل الأسطورة مقام ومكانة العلم، فعندما عجز الإنسان القديم عن التفسير العلمي للظواهر الطبيعية هرع إليها، فكان عندما يقع زلزال يفسر ذلك بأن الأرض ترتكز على قرني ثور.
وهناك أيضًا انتشار النقل الشفهي على حساب نظيره المدون، في سمة تخالف ما عُرف عن المصري القديم من توثيق؛ راجع نقوش جدران المعابد، وأوراق البردي، وما تركه من آثار، وكذلك تمثال (الكاتب المصري)، الذي يجسد مكانة العلم، وأهمية دوره في الحضارة القديمة.
سمة عبر عنها الإمام الشافعي، حين سُئل عن الليث بن سعد، إمام أهل مصر، فأجاب (الليث أفقه من مالك، لكن تلاميذه ضيعوه)، باعتمادهم على حفظ أحاديثه وعدم تدوينها فتآكلت وضاعت.
وقد كاد إرث الشافعي الفكري نفسه أن يضيع، لكنه كان بعد كل واقعة تمزق فيها الأوراق، أو تُسرق، أو تحرق، يقول (كتبي في رأسي)، ويعيد إملاءها على تلاميذه، فعاشت من بعده، حتى وافته المنية متأثرًا بجراح قاتلة على يد فئة من المتعصبين للإمام مالك.
وحسنًا فعلت سلسلة عالم المعرفة الكويتية -أسسها الدكتور فؤاد زكريا مع الشاعر الكويتي أحمد مشاري العدواني- بإعادة نشر كتاب (التفكير العلمي)، بعد نحو نصف قرن من تاريخ صدوره الأول في عام 1978، اعترافًا بفضل الرجل في تأصيل فكرة المنطق المبني على الحقائق، وإن وجدت في ذلك إشارة أيضًا إلى صعوبة هضم العقل العربي لقضايا التفكير العلمي، فصار على مضي الزمان يجترها ويفرز عليها عصارات فكرية اختلط جيدها برديئها، وبقيت القضايا على حالها.
يقول نزار قباني: (خلاصة القضية توجز في عبارة، لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية).