جمعني وبعض الشباب جلسة حول فنجان شاي؛ كعادة الكثير من لقاءات الصدفة، سارت الحديث في دروب مختلفة أول الأمر، ثم سرعان ما انتظم في اتجاهات فرضتها الاهتمامات وشواغل الحياة.
لشباب تعلم في مدارس دولية جرت الألسن بأسماء كُتاب أجانب وعناوين مؤلفاتهم في سلاسة وعذوبة. الروائي الأمريكي دان براون مؤلف الحصن الرقمي، والرمز المفقود، وشفرة دا فينشي، وقدرته على مزج الخيال العلمي بأبعاد فلسفية ودينية في إيقاع سريع مشوق، والسيدة رولينح مؤلفة سلسلة هاري بوتر.
كذلك حظي عبقري الأدب الإنجليزي والعالمي -وليم شكسبير بنصيب وافر من النقاشات، وإن استأثرت ماكبث وعقدتها الروائية بكثير من الجدل، ونالت قصة مدينتين لتشارلز ديكنز تقديرًا يناسب تعرضها لمحنة الطبقة العاملة الفرنسية قبيل اندلاع الثورة ووحشية الثوار تجاه الطبقة الأرستوقراطية، واحتفظت روايات–الأخوات برونتي بطزاجتها، مرتفعات ويذرنج لإيميلي، ورواية "جين إير" لشقيقتها شارلوت.
مَنْ قبل مَنْ؛ الأدب أم العلم؟، سؤال أشعل به الشاب المشغول بدراسة علم البيانات وسبل تحليلها وتحقيقها الحديث، في عالم تحول إلى توليفات قوامها الصفر والواحد، فيما صار يعرف بالنظام الثنائي "Binary"، أمكن رقمنة كل ما حولنا، وصار التحدي كيف ننتج خوارزميات تمكننا من اتخاذ القرارات، في عالم تجاوز حاجز البيانات الضخمة "Big Data"، إلى الذكاء الاصطناعي، وهنا لم أبدت إحدى الجالسات امتعاضها !!.
ولما لا، وزملائها من الطلبة والطالبات يستخدمون السيد ChatGPT في إعداد ما يُطلب منهم من تقارير وواجبات، والمحصلة؛ نتائج باهرة بلا تعليم، وسعادته خادم مُطيع لا يفرق بين من يستفسر ليتعلم ومن يسأل ليغش. طفل ساذج في يد شياطين الإنس، وعلى الأخلاق السلام.
في رواية أرض النفاق ليوسف السباعي، يصادف الشاب المحبط محلاً لبيع حبوب الأخلاق، وهناك يكتشف نفاد حبوب الأخلاق السيئة، وتوافر الأخلاق الحميدة. هل يمكن أن يأتي يوم تصلح فيه الحبوب ما أفسده الزمان، خيال ربما تحقق يوما.
بالعودة للسؤال؛ يخاطب الأدب النفس، بينما العلم مشغولٌ بالعقل. الأولُ حالمٌ وثائرٌ في آن واحد، يبني مدنًا فاضلة، ويرسم بالألوان لوحاتٍ فيها دفقةٌ من دفء الشمس، وطلةٌ من ضوء القمر، ونسمة من ريح الشمال. والثاني، رزينٌ هادئٌ، يتأمل الأرقام، يُقلبها، يصُفها، يصنع منها أهرامًا، وسفنًا وطائراتٍ تسافر في كل الدنيا.
تخطى ليوناردو دا فينشي بخياله حدود وإمكانات زمانه. وضع مخططات لآلات حديثة؛ طائرات، ومدرعات، وآلات حاسبة. وعندما شدد والد جول فيرن المراقبة عليه لمنعه من الهرب للعمل على ظهر إحدى السفن التجارية، أطلق الفتى العنان لخياله وكتب روائع روايات الخيال العلمي.
حتى الروايات التي تعرضت للمستقبل بنظرة سوداوية، مثل (1984) لجورج أورويل، تحققت نبوؤاتها؛ المراقبة اللصيقة للبشر والأخ الأكبر المسيطر على العالم. أو تلك التي قُدمت بشكل كوميدي كارتوني، "شركة المرعبين المحدودة Monsters, Inc.".
العِلم ضرير يتحسس طريق التقدم بعصا الأدب، وبـَحَار يغوص في محيطات المستقبل ويتنفس أكسجين الأدب.
بعد عودة مركبة الفضاء الأمريكية أبولو-11 من رحلتها، وبث أول خطوة لإنسان على سطح القمر على الهواء مباشرة، عقدت وكالة ناسا جلسات لتوثيق تفاصيل مهام فرق العمل التي شاركت في تحقيق الإنجاز التاريخي، كان أحد هذه الأسئلة، لماذا صُممت المركبة بشكل مخروطي، وكانت المفاجأة عندما انتهى علماء النفس من تحليل إجابات فريق التصميم إلى نتيجة مفادها تأثرهم بما قرؤه أطفالاً من روايات خيال علمي ورد بها وصف تخيلي لمركبات مخروطية تطير بين الكواكب.
للحديث مع الشباب حيوية وطزاجة، شباب ينظر في الاتجاهات الأربعة ويرنو للمستقبل بعيون الأمل، ولا تكبله قيود الحاضر.