
عندما نشر بيل جيتس كتابه (The Way Go Head)، عام 1995، اعتبره الكثيرون أحلامًا وأمنيات لرجل استطاع بمساعدة صديقه بول آلن تغيير العالم من داخل جراج سيارات.
بحلول منتصف التسعينيات، كانت كلمة الإنترنت تُتداول على نطاق ضيق مع خدمات محدودة، لذا بدت الصورة المستقبلية التي رسمها جيتس آنذاك حالمة؛ قنوات تليفزيونية رقمية تختزن رصيد هائل يختار منها المشاهد ما يشاء وقتما يشاء، تثبيت حساسات وكاميرات عند مدخل المنزل تتعرف على الزوار فتستدعي من الخزانة الإليكترونية ما يُرضي أذواقهم من موسيقى وأغان ولوحات فنية تعرضها شاشات مسطحة ثلاثية الأبعاد.
صور للمستقبل رسمها بيل منذ نحو ثلاثة عقود، تجاوزناها إلى ما هو أبعد، لكن فضل هذه الرؤى أنها وضعت أهدافًا واضحة أمام العلماء، فاجتهدوا لتحقيقها.
استشراف المستقبل عادة بشرية. بداية من قراءة الفنجان، ومرورًا بالبلورة السحرية، وتتبع مسارات النجوم ومواضعها، والتنقيب في الكفوف عن علامات تخبر عن الغد. يتحرك الجميع تحت تأثير الشغف والقلق. الشغف بما في جراب الغد، والقلق من باكر لا نعرف ملامحه.
مشغولون نحن بالغد، والغدُ حبيس الماضي. يقول بعض الفلاسفة أننا نعيش في الماضي بالكلية. فالفارق الزمني بين ما ترسله الحواس من إشارات للمخ وبين إدراكنا لها، كفيل بحبس عمرنا كله في الماضي. فيمتو-ثانية فرق تعني ماض ومستقبل.
يتسم الفكر الإنساني بالتراكمية، يبني ويطور اعتمادًا على الخبرات السابقة. طهي الطعام وتسخين الماء وظيفتان أساسيتان في مطبخ الأمس الذي صممه "بنيامين تومبسون" أواخر القرن الثامن عشر ونظيره في المستقبل الذي لن نراه. يكمن الفارق في الوسائل؛ حرق من أجلهما إنسان العصر الحجري أخشاب الأشجار، ثم عرفت المطابخ (وابور الجاز)، فإسطوانات الغاز، وتمددت بعدها خطوط الغاز الطبيعي في أرجاء المدن، ثم جاءت الكهرباء، ودخل الميكروويف على الخط. ومع كل نقلة اختلفت تصميمات ووظائف المواقد.
اليوم، تتيح تقنية إنترنت الأشياء Internet of Things, IoT خدمات غير مسبوقة؛ تزويد مقلاة بشريحة إليكترونية لا تزن جرامين، كفيل بإعداد وجبات أكثر جودة تلبي الأذواق كافة؛ مستوي النضج، بدء الطهي ذاتيًا حال العودة للمنزل، وتشغيل موسيقي تناسب الطبق المطلوب.
ما حدث للمقلاة يندرج على باقي الأجهزة الكهربائية؛ ستخاطب الثلاجة السوبر ماركت، وتطلب احتياجات المنزل طبقًا لمعدلات الاستهلاك واختلاف المواسم والرغبات، بما فيها برامج الحمية (الرجيم).
وكذلك تفعل الغسالة، وسخان المياه، والميكروويف، وغيرها من أجهزة. سوف يصبح إسناد العديد من الأعمال المنزلية إلى الروبوت أمرًا روتينيًا، وسيتساءل أهل ذلك الزمان؛ كيف كان أجدادنا –جيلنا وما قبله- يقومون بهذه الأعمال بأنفسهم، كيف كانوا يجدون الوقت للعمل، ولن يتوانى أحفادنا في وصفنا بأننا كنا بؤساء للغاية !!.
بلا شك، سوف يترك هذا التطور آثاره العميقة على طبقات المجتمع كافة؛ رفاهية أكثر وفرص عمل أقل. فالأعمال المنزلية التي تقوم بها الخادم سيتولاها الروبوت بنفسه، لتجد نفسها مجبرة للبحث عن عمل آخر، أو الوقوف في صف البطالة، والاستماع في أسى إلى ما يقوله أصحاب الياقات البيضاء عن الجنة الموعودة لرفاهية بني البشر.
اليوم يستشرف العلماء والمتخصصون مستقبل البشرية من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي وسط قلق بالغ، يكشف بشكل واضحٍ عن شكنا في الجانب الأخلاقي لبرمجة هذه الروبوتات بوصفه الحاكم والمحدد لتحويل كومة من القطع الميكانيكية إلى ملائكيين يفعلون ما يؤمرون أو شيطنتها فإذا بنا مظلومون. فقدان الجانب الأخلاقي يقلب ما كانت تطمح إليه البشرية من ذكاء اصطناعي إلى غباء اصطناعي غاشم يضيف إلى شقائها شقاوات أخرى.