وسط ركام الحروب والانقلابات وأزيز زخات الرصاص وانفجارات القنابل، تواصل بعض الدول سيرها الدؤوب على طريق الاستقرار والتقدم والديموقراطية.
منتصف يونيو الماضي، منح 59% من الناخبين السويسريين أصواتهم لمشروع قانون (الحياد الكربوني) الهادف إلى خفض الاعتماد على المصدرين الرئيسيين للطاقة؛ النفط والغاز. من ثم يستعرض المقال دلالات هذه الخطوة وتبعاتها الاقتصادية.
الأهم من اتخاذ قرار هو كيف يُتخذ القرار. سيادة مبادئ القانون مع إجراءات شفافة ومحايدة، وسلطة تراقب وتحاسب ولا تتدخل، تُفسح المجال لبيان وجهات نظر المؤيدين والمعارضين، وقاعدة بيانات دقيقة ومحدثة، كل هذه العوامل تمنح الناخب فرصة ترجيح أحد كفتي الميزان عن قناعة، مُدركًا أنه فاز أو خسر مطالبٌ باحترام اختيار الأغلبية.
يهدف القانون إلى تحقيق الحياد الكربونى بخفض انبعاثات الكربون بنسبة 75% بحلول عام 2050 مقارنة بنظيرتها عام 1990، وذلك للحد من مخاطر ذوبان الأنهار الجليدية في جبال الألب بعد ما فقدت 6% من حجمها العام الماضي، ليقترب الإجمالي من 40% من حجمها، مما يشير إلى تسارع وتيرة تداعيات تغير المناخ.
في المقابل، قاد حزب الشعب السويسري Swiss People's Party, SVP، أكبر حزب بالبلاد، حملة ضارية ضد القانون، محذرًا من تبعات اقتصادية تُثقل كاهل المواطنين أهمها ارتفاع نسبة التضخم، إلا أنه خسر رهان تكرار تجربة عام 2021، عندما فاز بجولة التصويت وألغى مشروع قانون للحد من انبعاثات غازات الدفيئة.
قبيل جولة التصويت ركز ماركو كييزا، نائب رئيس الحزب، على الورقة الاقتصادية لحشد الأصوات المعارضة، فحذر أن الموافقة تعني تكبد الموازنة نحو 400 مليار فرنك سويسري، حوالي 410 مليار يورو، يتحمل المواطنون جانبًا كبيرًا منها. باءت محاولته بالفشل، في بلد سبق وصوت أكثر من 78% من ناخبيه على مشروع آخر لزيادة الضرائب على مشروعات الشركات متعددة الجنسيات العاملة بسويسرا وتتخطى عائداتها السنوية عتبة 750 مليون يورو.
اتخاذ قرار كهذا في بلد نامي كفيلٌ بهزيمة اقتصاده بالضربة القاضية وهروب الاستثمار الأجنبي المباشر، إلا أن الأمر يختلف بالكلية في بلد صنع تاريخًا ناصعًا وسمعة طيبة في مجال الخدمات البنكية يصعب استنساخهما، بلغت معهما إجمالي الأصول 5,6 تريليون دولار، حوالي 25% من الأصول المتداولة عبر الحدود.
لعقود طويلة، ظلت سويسرا بنظمها المصرفية المحكمة وإجراءات تحاكي دقة شهرة ساعاتها العريقة في ركن قصي، جعلت من الخدمات المصرفية ماركة مسجلة ورمزًا لبلد تخصص في خدمات الرفاهية؛ صناعة الشوكولاتة والساعات والتزلج على قمم جبال الألب، حتى عندما قرر استضافة منتدى اقتصادي؛ منتدى دافوس، جعله عالميًا بامتياز، يترقب الرؤساء والملوك حضوره وتتخطى دورته المالية الخمسة مليارات دولار سنويًا.
خبرة لم تستطع دولة أخرى منافستها فيها، لا أمريكا، صاحبة أكبر ناتج قومي، 20 تريليون دولار، ولا الاتحاد الأوربي مجتمعًا والصين؛ 15 تريليون دولار لكل منهما.
دلالات عدة يشير إليها الاستفتاء ونتائجه؛ منهجية اتخاذ القرارات وحوكمة اجراءاتها تصلح نموذجًا دوليًا، توفير مناخ آمن وشفاف ومحايد للاستثمار الأجنبي المباشر أهم لديه من بيئة تنحصر أدواتها في عبارات ترحيب وتفتقر آليات التنفيذ. وعي المواطنين بقضايا الحاضر وظلالها على المستقبل مثال يحتذى وإشارة إلى مستوى تعليمي راق، تحمل التبعات الاقتصادية في شجاعة إدراكٌ كامل للمسئولية في وقت دعى فيه بعض المشاركين في مؤتمر أوبك بلس الأخير -المنعقد في فيينا هذا الشهر- لإعادة النظر في مفهوم "تحول الطاقة" ودور البترول فيه.
ودائمًا، وكما يقول نزار (وبرغم الجو الماطر والإعصار)، تظل هناك دولٌ قادرة على العمل في هدوء وضرب المثل للآخرين.