يتفق الذين تناولوا سيرة «صوت الأرض» الفنان السعودي الكبير طلال مداح، رحمه الله، أنه ولد في مكة المكرمة عام 1940، لكنه بسبب تيتمه صغيراً نشأ وترعرع بمدينة الطائف في بيت زوج خالته علي مداح، الذي أحبه كثيراً ومنحه اسمه فصار يعرف باسم طلال مداح، بدلاً من اسم الولادة «طلال الجابري».
لكن من يا تُرى علمه الغناء وعزف العود ابتداء ومكنه من هذه الآلة الموسيقية الشرقية الساحرة حتى غدا عازفاً بارعاً وملحناً قديراً من أعلام الموسيقى والطرب الأصيل؟
بدأ تعلق طلال بالفن منذ الصغر، حينما سحرته أنغام الموسيقار محمد عبدالوهاب، فراح يحفظ أغانيه ويرددها بين زملائه بصوته الجميل المميز، وخلال فترة دراسته بإحدى مدارس الطائف الابتدائية واصل هيامه بالفن والطرب على حساب دراسته، خصوصاً وأن إدارة مدرسته أسندت إليه آنذاك مهمة الغناء في جميع المناسبات والحفلات المدرسية، لذا لم يكمل تعليمه واكتفى بالشهادة الابتدائية.
في تلك الفترة المبكرة من حياته تعرف على أحد زملائه وهو عبدالرحمن محمد سعيد خوندنه الذي كان يعزف على العود ويملك عوداً خاصاً به اشتراه بمبلغ 300 ريال من شخص يدعى «مبروك القريني» ويكنى بـ«أبوحصة».
ونظراً لظروف المجتمع السعودي المحافظ وموقفه الرافض للغناء آنذاك، فإن خوندنه حرص أن يخفي عوده في بيت طلال الذي بدأ مذاك محاولاته الأولى في تعلم العزف دون جدوى. لاحقاً طلب طلال من صديقه خوندنه أن يعلمه العزف، فصار يأخذه إلى منزل صديق لهما يدعى «عبدالله فخري» كان يعمل كاتباً في شركة كهرباء الطائف.
وهناك بدأ طلال في تلقي دروس العزف، وسرعان ما تمكن منه بسبب ذكائه وعشقه للآلة، ناهيك عن تحمسه لفكرة أن يعزف ويغني لنفسه ما يشتهي من الأغاني والألحان المصرية، خصوصاً أغاني وألحان فريد الأطرش التي تولع بها في هذه المرحلة من حياته لاسيما أغاني «نورة» و«زنوبة» و«جميل جمال» و«يا جميل على حبك بان لي دليل»، وغيرها.
ونقلت مجلة «ليال» الفنية في أحد أعدادها القديمة عن خوندنه قوله: «ذكاء طلال جعله يتعلم العود بسرعة، كما أنه كان شغوفاً بالفن فراح ينهل من العلم الفني، وأضافت موهبته وتجاربه في الوقوف على المسرح إلى انطلاقه وشهرته». لاسيما بعد أن خرج من النطاق المحلي إلى النطاق العربي عبر غنائه في حفلات الصيف بالمصائف اللبنانية كمصيفي «بحمدون» و«عاليه».
ويخبرنا طلال في مذكراته أنه لكي يصقل موهبته الغنائية اقترح على أهله أن يأتي بالفنان عبدالله محمد ليعيش معه، وكان ذلك في عام 1960 أي حينما كان في السادسة عشرة، وكان مقبلاً على الزواج. فنصحه أهله بالابتعاد عن عبدالله محمد بدعوى أنه متمرد وشقي.
وحينما أخبر الأخير بما أمره به أهله بطريقة لطيفة كيلا يجرح مشاعره عاهده عبدالله محمد أن يبتعد عن الشقاوة وألا يسبب له إحراجاً. وهكذا عاش عبدالله محمد في بيت طلال مداح بالطائف لمدة تزيد على السنة تعلم خلالها طلال على يده أصول الغناء وحفظ منه معظم الأغاني.
وكان من نتاج تلك الرفقة والعشرة بين الفنانين إنتاجهما لواحدة من أجمل أغنيات طلال مداح الأولى التي كانت سبباً في شهرته ونجوميته، وهي أغنية «سويعات الأصيل» من كلمات سلطانة السديري وألحان عبدالله محمد، والتي يقول مطلعها:
كم تذكرت سويعات الأصيل.. وصدى الهمسات ما بين النخيل
إنت في حبك.. وأنا في حبي.. وأرى الذكرى دواء للعليل
فاتق الله.. فاتق الله.. فاتق الله في حبي يا حبيب
أنا ألقاك صباحا ومساء.. في خيالي أنت يا أحلى رجاء
أنت لي حلم.. ونور.. وهناء.. فمتى يقضي بلقياك القضاء؟