أكاد أُجزم أن كريستوفر نولان، مخرج فيلم أوبنهايمر، راهن على قدرته رسم الحيرة على وجوه المتفرجين. الحيرة من حبكة سرد بالغة الإتقان والحرفية تنقل الكاميرا بين مشاهد من الماضي والحاضر، بالأبيض/والأسود والألوان، بلا تكلف أو إجهاد، والحيرة من استعراض موضوعات علمية وفلسفية بالغة التعقيد في يسر، والحيرة إزاء هذا المستوى من التمثيل البارع الذي لا أشك ترك آثاره النفسية على أبطال الفيلم أثناء وبعد الانتهاء منه. تقمص الممثلون الشخصيات حتى فارقوا واقعهم. فضلاً عن دقة لم تترك تفصيلة في ملبس أو مكياج أو موسيقى إلا وأعطتها حقها. تخرج من الفيلم حائرًا، لا تدري من أين تبدأ التعقيب. ولعلنا في هذا المقال نستعرض عدة ملاحظات على الهامش.
خصصت أمريكا 2 مليار دولار عام 1942 لغرض انتاج قنبلة نووية تحت زعم سعي ألمانيا النازية بقيادة هتلر لتصنيع واحدة. رصد ميزانية بهذا الحجم في توقيت حرب يعني أن لا بديل عن العلم حتى في أحلك الأوقات، وأنه مهما كانت خزائنك خاوية أُكنس ما فيها من قروش وأنفقها على التعليم.
تكون فريق مشروع مانهاتن بقيادة جوليوس روبرت أوبنهايمر الأمريكي الجنسية لغرض قومي، ومع هذا ضم فريقه علماء من ألمانيا، والمجر، وهولندا، وإيطاليا، وسويسرا، وغيرها من البلدان، في إشارة إلى أن الأهداف القومية تستدعي نبذ سترة الانتماءات تِبعًا لجنسية، أو حزب، أو دين، أو فكر بعيدًا والتركيز على الهدف.
عمل الآلاف تحت قيادته وصولاً لهدف واحد.. صنع قنبلة نووية، قنبلة قادرة على انهاء الحرب العالمية الثانية، وتحويل دفة القتال لصالح من يستخدمها أولاً، حتى لو كان وضعه العسكري سيئًا.
أوبنهايمر الذي مر خلال مراحل حياته بنوبات اضطراب نفسي شديدة تركت بصماتها عليه، استطاع تجاوزها وقيادة فريقه كقائد أوركسترا، إلا أن العزف كان على إيقاع انفجار قنبلة سحقت عشرات الآلاف فور إلقائها، لتعاوده تلك المخاوف والاضطرابات في ذات لحظة الانتصار، ففي قمة النشوة بنجاحه ارتسمت أمام عينيه مشاهد وصور القتلى والجرحى والمشوهين، وعندما استدعاه الرئيس الأمريكي هاري ترومان (1884 – 1972) لتكريمه أخبره أنه يشعر بالذنب وبأن يديه ملطختين بالدم. وشتان بين النظرة الإنسانية والسياسية للأحداث؛ في هدوء أخرج ترومان من جيب سترته، وبطرفي إصبعيه السبابة والوسطى، منديلاً قماشيًا، وناوله إياه ساخرًا وطلب منه مسح يديه، وأن يفكر في المستقبل.
سجل الفيلم خطأ تقدير الرئيس ترومان عن احتمال امتلاك الروس قنبلة نووية، حين أعرب عن ثقته من عدم تمكنهم من ذلك، حينها عقب أوبنهايمر بهدوء أن لدى الروس علماء قادرين على ذلك، وإن تأخر الوقت. وحدث وامتلك الاتحاد السوفيتي قنبلة بحلول عام 1949، بمساعدة عالمين أمريكيين شاركا في مشروع مانهاتن بدافع منع تفرد أمريكا من امتلاك سلاح نووي، ومن ثم وقوع خلل في توازن القوى.
ومنذ ذلك التاريخ، بدأ سباق دائري محموم لا يتوقف بين القوى العظمى غايته امتلاك قدرات تدميرية عالية.
سؤال؛ ما الفرق بين مخترع قنبلة نووية وأخرى عادية؟، بين من صَنعَ رصاصة وآخر صنع دانة مدفع؟، الجميع شركاء في القتل مع اختلاف عدد الضحايا.
هل يمكن أن يأتي يوم نغفر فيه لأولئك الذين أوقعوا عددًا أقل من الضحايا؟، يقول تعالى (أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا)، صدق الله العظيم.
وضعنا الفيلم أمام سؤال كبير مفاده، أن كل رصاصة تنتج سوف تستقر -يومًا ما- في صدر إنسان. ولا عزاء للإنسانية !.