بفضل التطور الكبير والسريع لشبكة الإنترنت عالمياً أصبح من السهولة للناس الوصول إلى كميات هائلة من المعلومات والمعارف والأخبار التي تزخر بها مختلف المواقع والمدونات وتطبيقات التواصل الاجتماعي، من مواد مقروءة ومسموعة ومرئية، ليس على المستوى الأكاديمي من دراسات وبحوث ومواقع تخصصية، وإنما على المستوى الشعبي بالأخص من خلال المحتوى المتدفق من عموم المستخدمين، وبمقدار ما يمثل ذلك من نقلة نوعية في وسائل تبادل المعرفة في المجتمعات فإن هذا المنبع لا يخلو من شوائب منتشرة، حيث تختلط فيه المعادن النقية بالمغشوشة، والعسل المصفى بالمسموم، ما يتطلب من الإنسان أن يتحلى بمنهجية دقيقة لتلقي المعرفة في هذا العالم الرقمي.
0 seconds of 0 secondsVolume 0%
ومما يؤكد ذلك ما يتسم به العالم الرقمي من التدفق المستمر للمعلومات الصحيحة والخاطئة والمضللة، وبالأخص في السنوات القليلة الماضية التي انتشرت فيها الكثير من التطبيقات الاجتماعية التي اكتسحت واقع الناس، وازداد انتشارها بشكل أكبر مع جائحة كورونا التي عمقت صلة الإنسان وتفاعله مع التقنيات الرقمية كونها المنفذ لما لم يمكن أداؤه واقعياً، بجانب ما تضمنته من بدائل ترفيهية وتواصلية لشغل أوقات الناس في بيوتهم بسبب إجراءات اﻟﺣﺟر واﻹﻏﻼق.
وهذا التدفق المعرفي في العالم الرقمي لا يمكن السيطرة عليه، فلو وجدت إرادة لتحقيق ذلك على سبيل الافتراض فإن ذلك يتطلب كوادر خبيرة هائلة، وتبرير لما قد يوصم بأنه رقابة وانتهاك لحرية التعبير، مع صعوبة الإلمام بجميع صور التزييف بما في ذلك التزييف العميق، مع مناقضة ذلك لمبدأ شركات التكنولوجيا المعنية بالتطبيقات الاجتماعية وغيرها، والتي تقوم في الأساس على زيادة القواعد الجماهيرية وتوسيع أساليب نشر المحتوى على اختلاف أشكاله وألوانه بغرض التربح والتنافس الاقتصادي، وبالتالي أدى ذلك إلى زيادة مصادر ضخ هذه المعرفة لتعم أي مستخدم في أي مكان كان، ومن هذا المنطلق فالتدفق المعرفي في هذه العوالم يتسم بالضرورة بكونه تدفقاً فوضوياً يختلط فيه الغث مع السمين.
ولذلك، ففي مقابلة أجريت مع لجنة مكونة من 50 خبيراً في أوائل عام 2017 حول «التحديات الكبرى التي تواجهها البشرية في القرن الحادي والعشرين»، أكد الكثير منهم أن من أبرز هذه التحديات انهيار مصادر المعلومات الموثوقة، ولا يتوقف الأمر على المعلومات المضللة فقط، أي تلك المعلومات التي يطلقها صناعها بهدف تضليل الجمهور، وإنما نطاقها الأوسع تلك المعلومات الخاطئة أو غير الدقيقة التي لا يقصد ناشروها التضليل، وإنما لا يراعون فيها الصواب والدقة، وقد تدفعهم الرغبة في النشر وتوسيع المحتوى والتربح إلى الخوض فيما لا يتقنونه.
إن كل ذلك يؤكد ما يجب أن يتحلى به الفرد في العالم الرقمي من منهجية منضبطة لتلقي المعرفة، وأن تكون لديه موازين ومناخل للاختيار والانتقاء والقبول والرفض والحياد، ومن أهم هذه الوسائل التأكد من مصادر المعلومات قبل الخوض في عناوينها أو مضامينها، وفي القول المأثور «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم»، وبالأخص ما يتعلق بالمعلومات الدينية والصحية والأخبار المتعلقة بالدولة والمجتمع وسائر المعارف والأخبار الأخرى، ولذا ليس من الصواب أن ينتقل الفرد من معلومة إلى أخرى في هذا التطبيق أو ذاك ويعتمد على مجرد طريقة العرض أو الذائقة للتسليم بها وتبادلها مع الآخرين، وخصوصاً تلك المعلومات التي لا يمكن تقييمها بالعقل المنطقي المجرد، لكونها معلومات تخصصية أو أخباراً تحتمل الحدوث، إلى جانب ما يحدث للإنسان من الارتباك والحيرة بسبب المعلومات المتضاربة التي قد يواجهها، فيقع في التوهان المعرفي إن لم تكن عنده موازين.
ومن المعايير المهمة في منهجية التلقي المعرفي المنظومة القيمية التي يتحلى بها الفرد، والتي تتضمن هويته الوطنية ومبادئه الدينية وثوابته الأخلاقية، فهذه القيم جدران حماية ذاتية وصخور تتحطم عليها التوجهات المنحرفة والمعلومات المضللة، فإلى جانب ما تمثله التوعية الإعلامية من دور مهم في هذا الجانب، فإن هذه التوعية لا تكفي لوحدها ما لم تقترن ببناء قيمي وثقافي للمجتمع، تتشكل لبناته الأساسية لدى الأسرة، التي تحرص على غرس القيم في نفوس أفرادها، وتنشئتهم على المبادئ القويمة والتفكير العقلاني المستنير.
إن من أهم ما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان الاستفادة من أدوات العصر في تحصيل المعرفة، بالطريقة الصحيحة، وبالقدر الذي ينفعه ويفيده، وسط هذا الزخم الهائل من المعلومات التي تتدفق باستمرار في كل لحظة وآن.