آخبار عاجل

حمد بن عبدالعزيز الكواري يكتب: «على قدر أهل العزم» .. الفصل الأول

03 - 09 - 2023 10:05 1130

الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية يقدم خلاصة تجربته فى كتابه «على قدر أهل العزم»

ننشر حلقات من الجزء الاول من الكتاب.

تستعرض " Gulf 24 الإخبارية" على حلقات بدءاً من اليوم حلقات من كتاب " على قدر أهل العزم" لسعادة الدكتور حمد بن عبد العزيز الكوارى وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية، والصادر عن دار بلومزبري - مؤسسة قطر للنشريُعتبر هذا الكتاب سيرة فكرية لوزير الثقافة القطري حمد بن عبد العزيز الكواري أراد من خلاله تقديم خلاصة تجربته أكثر منها سيرة ذاتية فقد جاء الكتاب في تسعة فصول متنوعة القضايا والأفكار يربطها جميعا رأي الكاتب فيها على الرَّغم من كونها مواضيع متنوعة فقد تحدَّث في الفصل الأول عن العاصمة الدوحة ومكانتها وسبب اختيارها عاصمةً للثقافة عام 2010. أمّا في الفصل الثاني فقد عرضَ رأيه ورؤيته لقضايا الأدب العربي خاصةً الرواية التاريخية والفنون المرتبطة بها. الفصول الأخرى تناولت مواضيع عديدة مثل المجلس القطري ودوره في نقاش القضايا السياسية والثقافية، حرية الإعلام والتعبير عن الرأي والدوافع وراء إلغاء وزارة الإعلام القطرية. وفي خاتمة هذا الكتاب يقول صاحبه: «لقد كنت في حاجة إلى مراجعة النفس وجرد الأيام التي عشتها حقا بالطول والعرض كما يقال وكنت أتأمل وأنا أخط هذه الصحائف إنسانيتي وكرامتي أول وقبل كل شيء.. كانت هذه الفصول نوعا من استراحة المحارب اليومي من أجل ما أتبناه من قيم ومبادئ ومن أجل تحقيق ما أصبو إليه داخل وطني وفي وطن البشرية الأكبر..»
وهذا الكتاب هو قصة الرجل الذي بذل عمره الثري لرفع رایة الثقافة الإنسانیة علی قمة الحضارة. الرجل الذي بدأ نشاطاته الثقافیة في ساحل البحر؛ وحضن الصحراء الصادقة بواحاتها الجمیلة وکرم ضیافاتها الذهبیة، تحت ظلال أوراق نخیلها کأجنحة الملائكة، وعذوبة عیونها الغزیرة کابتسام ملكة سماویة. قصة الرجل الذي صارت الكتابة جزءًا من یده، والثقافة حیاته. مضيفا: تعلمتُ عبر صفحات هذا الكتاب کیف یمكن لرجل أن يشق أمواج الفتن بسفن النجاة، ویلزم السواد الأعظم، وعلّمَنا کیف نتعامل مع الأمواج والبحر والریاح، وكيف علینا هدایة السفینة وإیصالها إلی ساحل الأمن والأمان. إلى ذلك الساحل للتآلف بين القلوب والعنایة بالثقافة والحفاظ علی الجذور والانتفاع بما علمنا، والسؤال عمّا جهلنا. إنّ هذا الكتاب هو باب مفتوح على حديقة الثقافة الإنسانية المكثفة بأشجارها الخضراء، المزينة بثمارها اليانعة لوقت قطفها. بهذا الكتاب نفهم معنى الثقافة بعميق معناها. ولهذه المیزة الممتازة ترجم حتی الآن إلی سبع لغات.
يذكر أن كتاب «على قدر أهل العزم» هو أول كتاب قطري يترجم الى ١٠ لغات هي: الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والتركية والصينية والفارسية.
وفي هذه الصفحات نستعرض فصول هذا الكتاب المهم في المكتبة العربية:

الفصل الأوّل
دوحة الخصوصيّة والكونيّة
نجد أنفسنا أحيانًا مشاركين في تنفيذ سيناريو لا نتحكّم، تمام التّحكّم، في صياغته وبنائه الدّراميّ، ولكن علينا أن نُواجه قدَرنا وأن ندخل اللّعبة بما تستوجبه من ثقة في النّفس وأداء مناسب.
وإليكم تفاصيل من أحد السّيناريوهات التي عشتُها:
الزّمان: 2009
المكان: برنامج تلفزيونيّ مباشر
المناسبة: الاستعدادات للاحتفال بالدّوحة عاصمة للثّقافة
العربيّة سنة 2010
المشاركون: وزير الثّقافة القطريّ والمذيع والمشاهدون )عبر
الهاتف( وحضور من الجمهور.
كان عليّ أن أؤدّي دوري في الإجابة عن أسئلة متعدّدة متشعّبة تنمّ عن اهتمام الشّباب بالخصوص بالحدث المنتظر بقدر ما تدلّ على وعيهم بمختلف جوانب العمل المطلوب. كانوا في أسئلتهم مدفوعين بحرصٍ كبيرٍ على إنجاح فعاليات التّكريم للدّوحة وعملها من أجل الثّقافة. بَدَا لي من تدخّلاتهم أنّهم على قدر من الطّموح كبير ممّا زاد في الضّغط الذي كنت أعيشُه أمام الرّأي العامّ على الهواء مباشرة.
فقد عُيِّنتُ في سبتمبر 2008 ، للمرّة الثّانية، على رأس وزارة الثّقافة والفنون والتّراث. فإذا بي أجد أمامي تحدِّيًا من الحجم الثّقيل: ملفّ الدّوحة عاصمة للثّقافة العربيّة 2010 !
كان الوقت ضيّقًا جدًّا لرفع التّحدّي الوشيك. بل الأدهى أنّني أنتمي إلى بلد لا يؤمن بأنصاف الحلول ومخايل النّجاح. فلقيادته من الطّموح ما يجعلها لا تقبل إلاّ بالنّجاح الكامل. لا مهرب إذن!
فقد حُدّد التّاريخ ووافقت الدّول العربيّة مجتمعة على المبادرة.
لا مجال للتّأجيل أو التّراجع رغم أنّني لم أجد ولو بداية استعداد للحدث الكبير. لم يكن أمامي برنامج ولو في حدّه الأدنى. والأنكى أنّ البنية التّحتيّة التي ستحتضن الفعاليات لم تكن جاهزة حتى نُنفّذ المهمّة على وجه يرقى إلى انتظارات القيادة التي أعادتني، بعد عدّة سنوات، إلى القطاع الثّقافيّ.
حين دخلتُ ستوديو البثّ لم تكن لديّ فكرة عن أسئلة الجمهور في الخارج طبعًا ولا عن أمْر أهمّ وهو سؤال أُلقِيَ على الحاضرين وعليهم أن يجيبوا عنه. كان السّؤال في صميم القضايا التي شغلتني:
«هل الدّوحة جاهزة لأن تكون عاصمة للثّقافة العربيّة في »؟ 2010 وقد تبيّنتُ، في غمرة اللّقاء، أنّ الرّهان هو أن أٌقنع الحاضرين وجمهور المشاهدين حتّى تكون إجاباتهم معبّرة عن ثقتهم في الدّولة وهياكلها وإرادتها الصّادقة وفي وزارة الثّقافة والفنون والتراث وكفاءتها لتحقيق النّجاح الذي ينتظرونه.
كانت المهمّة بحسب المعطيات المتوفّرة مستحيلة. وكان عليّ أن أوازن التّوازن الأخلاقيّ الدقيق بين الصّدق في أقوالي وخلق الانطباع، بصفتي المسؤول عن هذا الملفّ، بأنّنا على استعداد لمواجهة التّحدّي. فكيف يمكنك أن تبني إقناعك للنّاس على مجرّد الإرادة الطّيّبة ودنيا السّياسة أصبحت تتحدّد بالأرقام والمؤشّرات والبيانات والأدلّة الدّامغة ؟
وقد ألهمتني تلك اللّحظة بأنْ أجعل استراتيجيّة خطابي إزالة أشواك الشّكّ اعتمادًا على الرّغبة العارمة في التّوفيق والفَلاح.
كان المقام صعبًا ولا ريب. فالجميع، كما تبيّن، يعلم أنّ الأمور لم تنطلق بعد، وكلّ ما كنت أقوله للشّباب بدا لهم من باب المبالغة التي لا يسندها في الواقع دليل. لم يقتنعوا بأطروحتي المبنيّة على الإرادة والطّموح رغم كلّ الجهد الذي بذلته. غير أنّني حافظتُ على إيمان عميق في أنّ النّجاح سيكون حليفنا وعلى سكينة نفسيّة لا أدري من أين أتيتُ بها.
انتهى التّصويت على السّؤال المحوريّ وكان الجواب معبّرًا عن عدم اقتناع الجمهور بأنّ الدّوحة ستكون جاهزة سنة 2010 لاحتضان أنشطة عاصمة الثّقافة العربيّة بنسبة فاق التصويت بالسلب السّبعين بالمئة !
كان ذلك ولا شكّ، بمعايير الاتّصال السّياسيّ، كارثة حقيقيّة.
بيد أنّني لم أنزعج لأنّ الواقع الذي أعرف خباياه يدعّم هذه النّتيجة السّلبيّة. ودور السّياسيّ هو الاستثمار في الإيجابيّات وبعث الأمل في النّفوس. لذلك حين وجّه إليّ المذيع المحُاوِر أخطر أسئلته في ذاك البرنامج: «هل تقبل سعادة الوزير هذا التّحدّي! وهل مازلت ترى أنّ الدّوحة قادرة على أن تكون عاصمة ناجحة؟ » أجبت بثقة «نعم » وأضفت: «إنّني أقبل التّحدّي وستكون من أنجح عواصم الثّقافة العربيّة .»
لم يكن ما قلته من باب التّفاؤل الكاذب رغم صعوبة الموقف وإخفاقي في إقناع الحضور والمشاهدين بفكرتي. إلاّ أنّني كنت أستمدّ تلك الثّقة في النّفس من معرفتي الجيّدة بالإرادة السّياسيّة لدى القيادة وسوابقها في مواجهة التّحدّيات وحرصها على الكمال والإتقان. كان الرّصيد في هذا الباب ثَريًّا مُتعدّدًا. فلم أقبل أن أضع خبرتي ومصداقيّتي في ميزان التّحدّيات ولا قبول المغامرة لو لم أكن مقتنعًا أنا نفسي بذلك. ثمّ إنّ الخيارات لم تكن أمامي كثيرة !
ومن الغد كان عليّ أن أشمّر عن ساعد الجدّ رغم أنّ ردود الفعل لم تكن متحمّسة لما قلتُه في برنامج الأمس ورأى الكثيرون أنّني غامرتُ أكثر ممّا يجب.
واليوم، حين أستعيد بعض هذه التّفاصيل، أجد أنّ ردود الفعل هذه كانت ملتبسة في نفسي. فقد أضافت إلى مجمل ضغوطات الإنجاز ضغطًا نفسيًّا عليّ كان يمكن أن يدفعني إلى بعض اليأس وشيء من الشّعور بالإحباط. فما أقبح أن تجد نفسك في مهبّ الشّكوك والارتياب والخوف من الفشل ! ولكنّها في الواقع، من جهة أخرى، مثّلت حافزًا إضافيًّا وعاملاً مشجّعًا جديدًا لم يكن شخصيًّا، على أهميّة ذلك بالنّسبة إلى أيّ رجل سياسة تُوكل إليه مهمّة صعبة، بل كان رهانًا وطنيًّا وعربيًّا وإنسانيًّا.
ونجحتُ في التّحدّي ونجحَت الدّوحة عاصمة للثّقافة العربيّة! لقد علّمتني التّجارب أنّ النّجاح شعبة متينة من دوحة الإرادة السّياسيّة الصّادقة. فقد عاشرتُ قيادة لم تكن تبخل على العاملين بتوفير جميع الوسائل المادّية والمعنويّة للسّير قُدمًا في طريق الفلاح وتذليل الصّعوبات.
الثّقافة العربيّة وطنًا والدّوحة عاصمة
كانت أمامنا أشهر معدودات. لم يكن في هياكل الوزارة ولا في غيرها جهاز يسهر على المهمّة الشّائكة الوشيكة. فاللّجنة العليا التي ستُوكَل إليها هذه المهمّة لم تنشأ بعد. تقدّمتُ باقتراح إلى مجلس الوزراء ليترأس هذه اللّجنة معالي رئيس الوزراء على أن أكون نائبًا له فأصرّ على أن أتحمّل المسؤوليّة كاملة حتى في رئاسة اللّجنة العليا: عبء نفسي آخر ضاغط من جهة ودافع إضافيّ للإخلاص في العمل والتّفاني فيه من جهة أخرى.
أوّل ما قامت به اللّجنة هو التّحقيق في برامج العواصم العربيّة السّابقة لغاية ضبط سقف الإنجازات والاستفادة من الخبرات الحاصلة. كان هدفنا التّميّز والإضافة النّوعيّة.
قُدّمت لي مقترحات كثيرة عن شعار المناسبة. كثير منها رائق جذّاب واستقرّ رأيي على شعار «الثّقافة العربيّة وطنًا والدّوحة عاصمة اخترتُه وبادرتُ إلى صياغته على نحوٍ دقيق. وأعترفُ أنّنا وُفِّقنا في هذا الاختيار تعبيرًا وصياغة. فقد أبان عمّا نعتقده فعلاً من معاني رفيعة وقيم سامية. أضف إلى ذلك أنّ وقعه لدى كلّ من اطّلع عليه كان كبيرًا يثير الإعجاب. وما يزال إلى اليوم يتردّد بمغزاه في العقول وبوقعه في القلوب.
كانت الدّوحة عاصمة للثّقافة العربيّة فرصة لي، رغم جسامة المسؤوليّة واستعجال الأعمال العالقة، للتّفكير في أقوم السّبل، لجعلها صورة من صور التّفكير الحديث في قضيّة كثيرًا ما تُطرح، شأنها شأن قضايا عديدة في الثّقافة، بطريقة حادّة كما لو كانت تَفرض عليك أن تنحاز إلى أحد طرفَي التّناقض. وأقصد في هذا الصّدد مسألة الخصوصيّة الثّقافيّة والنّزعة الكونيّة. والحقّ أنّ كثيرًا من متعلّقات هذه المسألة ما كان ليطرح لولا الإرث الاستعماريّ وحالة الوهن التي تعيشها بعض المجتمعات والثقافات والعولمة الزّاحفة بقوّة. فقد حمل السّياق العامّ الذي نعيش فيه جملة من الإشكالات تتّصل أساسًا بدخول الصّناعة إلى مجال الثّقافة. وهو أمر ملحوظ سواء في الصّناعات أو في ما جرفه التّجديد الصّناعي من أطلال الماضي والتّقاليد في هذه الثّقافة المخصوصة أو تلك.
وعمومًا أصبح التّوتّر بين المحلّي والكوني توتّرًا لا يخلو من حدّة أخرجت مخاوفَ عديدة من قمقمها. وصار النّاس يتساءلون عن مستقبل ثقافاتهم المحلّية في خضمّ تدفّق البضائع والمنتجات والخيرات الثّقافيّة من كلّ حدب وصوب.
ولم تقتصر هذه المخاوف على ثقافات البلدان النّامية. بل نجد بعض ثقافات الدّول المتقدّمة تخشى ممّا يُسمّى «الأمرْكَةَ » وما تحمله من تنميط يُردّ عليه ب «الاستثناء الثقافيّ » أو ما أضحى يُسمّى «التنوّع الثقافيّ ». فأصل الخوف عائد إلى الاحتكام إلى منطق السّوق في مجال الثّقافة. وهذا ما استدعى مزيد الحرص على تفعيل دور الدّول في حماية ثقافتها والإلحاح على دور المنظّمات الدّوليّة مثل اليونسكو ومنظّمة التّجارة العالميّة في حماية التّنوّع الثّقافيّ.
المفارقة الكبرى في هذا هو أنّ تيار العولمة الزاحف على الثّقافات المخصوصة صاحبه صعود قويّ للمطالب المتّصلة بالهويّات الثّقافيّة. فكأنّ عالمنا يسير على نحوٍ متعاكس: كلّما تقارب البشر واتّجهوا نحو سلّم من القيم والتّصوّرات المشتركة كان الانكفاء على النّفس ونزعة الانطواء على التّقاليد الرّاسخة أقوى. فهذا التّوتّر داخل السّوق الثّقافيّة المعولمة ظاهر للعيان بل أدّى أحيانًا إلى مواقف متطرّفة نشرت عدم التّسامح على نحو يهدّد السّلم. ويرتبط هذا الضّرب من ردود الفعل بالنّزعة التي تحملها العولمة كي تُخضِع كلّ الثّقافات إلى معايير وقِيم مُوحّدة ترمي إلى صبغ نمط حياة النّاس بألوان تقضي على كلّ خصوصيّة ثقافيّة.
هل يمكن أن تزول الخصوصيّات الثقافيّة؟
إنّ المتأمّل المنصف لا يقنع بهذا الّذي يبدو في ظاهر الأمور. فليست العولمة باعتبارها حركيّة اقتصاديّة أساسًا، لها انعكاسات ثقافيّة ثابتة، بمرادف للكونيّة باعتبارها المشترك القيميّ الجامع بين الثّقافات مهما تباعدت أو تجذّرت في خصوصيّتها. فالواقع يؤكّد أنّ عمليّات التّحديث المتواصل بنشر القيم الثّقافيّة الغربيّة لم يتمكّن من إلغاء الخصوصيّات الثّقافيّة هنا وهناك. فعلى الرّغم ممّا يُلاحَظ من انجراف سريع لبعض الثّقافات حتى أصبحت كائنات متحفيّة في الغالب فإنّنا نرى صمود مكوّنات ثقافيّة صلبة تستند إلى تقاليد عريقة لم يستطع السّوق الثّقافيّ أن يبتلعها.
أنا أرى مظاهر كثيرة تدلّ على أنّ الثّقافات الخصوصيّة استوعبت المنتوج الثّقافيّ الصّناعيّ وهضَمَته بإدراجه في بيئتها وسياقها. والسّرّ في ذلك أنّ الموادّ الثّقافيّة ليست مجرّد بضاعة محايدة مثل غيرها تُستهلك ولا تَترك في النّفوس أثرًا بل هي من حيث تعريفها نفسه ترفض التّنميط وتصنع بالضّرورة الاختلاف والغيريّة. فللثّقافات المستندة إلى تقاليد صلبة مرونة وقدرة على التّكيّف بما يجعلها في صيرورة مستمرّة وبناء متواصل فلا تكتمل أبدًا وإن شُبّه لنا.
بهذا المعنى يبدو لي كثير ممّا يطرح في مناقشة الكونيّ والخصوصيّ طرحًا مغلوطًا لا يوافق حقائق الأمور. فالبشريّة، في ما أرى، تنزع بالطّبع إلى ترسيخ اختلافها المخصب. ولا يزعمنّ أحدٌ أنّ الحداثة، بأصولها الغربية، نزّاعة من جهة أخرى إلى إدخال الجميع في جلباب واحد. فأكثر ما يميّز الحداثة الحقّ هو الانفتاح والرّغبة عن التّنميط. أليست الحداثة هي التي أخرجت الإنسان من الحلقة المفرغة التي تجعله صورة مجسّدة لما ارتضته المجموعة من منظومات للقيم والسّلوك؟ أليست الحداثة هي التي جعلت الفرد قادرًا على أن يبني مسارًا لحياته يختاره عن وعي وفتحتذهنه على ممكنات لم تكن متاحة له من قبل؟ فما بالك بالثّقافات؟
إنّني، على حسب تجربتي ومعاينتي لثقافة بلدي وثقافتي العربيّة وتجوالي في مدن عدّة تختلف بثقافاتها في القارّات الخمس، رأيتُ أنّ كلّ ثقافة تُدرِج بأسلوب خاصّ بها المنتجَ الثّقافيّ المعولم في سياقها الخصوصيّ. وهذا الإدراج يكون حينًا بتعايش الحديث والقديم على أساس التّجاور وحينًا ثانية يكون بالتّمازج حدّ الانصهار وحينًا ثالثة يكون بإعادة تشكيل الحديث للقديم وإخراجه على صورة جديدة وحينًا رابعة يكون بإدراج الحديث في القديم على نحو يُبرزه كما لو أنّه من صميم هذا التّقليد الثّقافيّ أو ذاك.
هذا ولم أستوف الإمكانات في التّفاعل بين الخصوصيّ والكونيّ والمحلّي والعولميّ. وليس ما أزعمه هنا إلاّ تعبيرًا عن صميم مفهوم الثّقافة لو تأمّلناه بطريقة هادئة.
دعك من التّعريفات التّقنيّة للثّقافة باعتبارها مركّبا من المعارف والفنون والأخلاق والمعتقدات والعادات وما يكتسبه الواحد منّا في مجتمعه. فهذا التّعريف على أهميّته وشيوعه لا يكشف عن سرّ صمود الثّقافات أمام تّيّار العولمة الجارف. لست أعرفُ ثقافة تنبُتُ كالفطر خارج سياق اجتماعيّ يحتضنه التّاريخ والجغرافيا. فالثّقافة بهذا المعنى متجذّرة أكثر ممّا نتوهّم. ولا يغرّنّنا جبروت آلة التّوزيع العالميّ للمنتج الثّقافيّ المصنوع. ومعنى هذا إذا تدبّرناه أنّ الثّقافة محلّيّة بالضّرورة وبالطّبع لا تزول إلاّ بزوال المجتمع الذي أنتجها.
وليست هذه الثّقافات المحلّية بمعزل، في الآن نفسه، عن تحوّلات التّاريخ وعوامل الزّمن ولا يمكنها أن تكون جامدة بل عليها، كي تبقى وتستمرّ وتثرى وتزكو وتورف دوحتُها، أن تستوعب تلك التّحوّلات  دون أن تفقد فرادتها بفضل ما تختصّ به من سلوكيّات وعقائد دينيّة ومميّزات في الطّعام والفنون واللّهو والجدّ والطّقوس... إلخ.
وهذا الّذي يجعل ما هو فريد متجذّر اجتماعيًّا متواصلا مستمرّا إنّما هو نمط تبليغه وتناقله من جيل إلى جيل. وهذا النّمط هو التّقاليد. لذلك، مهما فعل الزّمن بالثّقافات فإنّ مكوّناتها، كلّها أو جلّها أو بعضها ممّا يميّزها، يظلّ حاضرًا في النّفوس والسّلوكيّات فاعلاً في بناء هويّة الفرد والجماعة مقبولاً منهما فيُعاد إنتاجه على نحو يكاد يكون طبيعيًّا بواسطة نمط التّبليغ أي التّقاليد.
هنا في ظنّي يكمن السّرّ الأكبر لديمومة الثّقافات واختلافها حتى إن تشابهت أو تقاربت. فهذا الجانب الخفيّ هو الجانب الصّلب الذي يصنع للواحد منّا مرجعيّاته وطرائق تواصله في مجتمعه ومع الآخر المختلف وأشكال سلوكه. وليس في وسع أيّ نزعة تنميطيّة مهما كانت أن تدكّ هذا التّقليد الرّاسخ الذي يسري في الثّقافات، كما في الوجدان الفردي ونظام المجتمع وفي السّلوكيّات الشّخصيّة، سريان الدّم في العروق.
ليس أدلّ على هذا من الارتباط الثّابت بين الثّقافة واللّغة والهويّة فرديّةً كانت أو جماعيّة. فإذا صحّ أنّنا ندرك العالم باللّغة ونصنّف أشياءه وموجوداته بها ونتواصل مع شريكنا في الوجود القريب بواسطتها فنشعر من خلال ذلك كلّه بانتمائنا إلى جماعة لغويّة معيّنة، فإنّ اللّغة هي الرّكن المكين من الهويّة باعتبارها تمثّلاً رمزيًّا لكياننا الاجتماعيّ نصنع به غيريّتنا بقدر ما نصنع به اختلافنا وكينونتنا الثّقافيّة.
لنفتح النّوافذ جميعًا
استنادًا إلى هذا التّصوّر دخلتُ إلى مشروع الدّوحة عاصمة للثّقافة العربيّة. كنتُ أعلم، علم اليقين، أنّ ثقافة بلدي تضمّ نواة من التّقاليد صلبة تُمكّنها من استيعاب الحداثة على أفضل وجوهها ولها من المرونة ما يكفي كي تفتح النّوافذ لتهبّ رياح الثّقافات من جميع أرجاء المعمورة دون أن تبعثر لها الأوراق.
كنتُ واعيًا، كلّ الوعي، بأنّ للثّقافة العربيّة عمومًا من الصّلابة التي رسّختها تقاليد عريقة ضاربة بجذورها في التّاريخ البعيد والأمداء الطّويلة ما يكفي ليُسهّل تلاقحها مع ثقافات الدّنيا فتتفاعل معها ضروبًا من التّفاعل يُثريها اليوم كما أثراها بالأمس ويُحيي الأغصان المتيبِّسة في دوحتها دون أن يَدُكّ منها الجذوع أو يقتلع الجذور.
وبناء على هذا التّصوّر المبدئيّ شرعت في التّشاور، ضمن مسار تشاركيّ، مع أهل الأدب والفنّ والثّقافة حول الافتتاح. فهو البوّابة التي ستُفضي بنا إلى مختلف مناطق وطننا الثّقافيّ العربيّ من الخليج إلى المحيط وشوارع عاصمته الدّوحة. فكان الوقوف على رمزيّة «بيت الحكمة » نبراسًا لنا جعلناه افتتاحًا يحمل من الدّلالات القيميّة والمعاني الفكريّة والحضاريّة ما يكفي ليشير إلى موقفنا المبدئيّ من تحاور الثّقافات وتفاعلها. فقد كان القصد أنّ نحقّق توازنا بين التعريف بثقافتنا الوطنيّة وما تزخر به قطر من فنون وآداب وتراث مادّيّ وغير مادّيّ وبين تعرّف مواطنينا، نساءً ورجالاً، شيبًا وشبّانًا، على تنوّع ثقافات الدّنيا وفنونها عسى أن يترسّخ في وجدانهم وعقولهم أنّ الثقافات بهيّة رائقة كألوان قوس قزح في تعدّدها وتجاورها وتمازجها وانسجامها انسجامًا يُضفي على ذاك الاختلاف رونقًا وبريقًا متفرّدَين. فعقيدتنا راسخة في أنّ الثقافة هي المدخل الأساسيّ للتعارف مع الآخر والتدرّب على عيش الاختلاف والقبول به بما ينمّي الانفتاح الفكريّ ويدعّم التسامح. وهو إلى ذلك يفتح الآفاق الرحبة بفضل الاحتكاك الفنّيّ والتفاعل الفكريّ أمام الإبداع والابتكار وتجويد الحسّ وتفتّح الروح.
لقد شكّلت احتفالية الدوحة عاصمة الثقافة العربية 2010 حدثًا استثنائيًّا بعدة مقاييس في الساحة الثقافية الإقليميّة والدوليّة.
وكانت اليونسكو قد أطلقت عن طريق جامعة الدول العربيّة مبادرة العواصم العربيّة بهدف التعريف بالثقافة العربيّة والترويج لها، بيد أنّ الدوحة اختارت أن تحتفي هذه الفعاليّة بالثقافة الإنسانيّة برمّتها وبالإبداع الإنسانيّ في مختلف تجلياته، ولذلك حضَرَت إلى جانب الدّول العربيّة عشرات من دول العالم منها: المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة واليابان وروسيا والصين والهند وإيطاليا وإسبانيا وعدة بلدان من إفريقيا وأمريكا الجنوبيّة. وعلى امتداد سنة كاملة تناوَبَت كلّ ألوان الطّيف الثقافيّ على الدوحة لتُخاطب الآخر من خلال إبداعاتها الثقافيّة في كل المجالات: المسرح والسينما وفنون الأداء والتصوير الضوئيّ والفنون التشكيليّة والآداب وغيرها.
أشرفت وزارة الثقافة والفنون والتراث على الاحتفاليّة، ولمّا جلستُ مع فريق العمل خلال ورشات التحضير للفعاليات، تبيّن لنا ثراء التعبيرات الفنّيّة للدّول التي كنّا ننوي استضافتها، وطرحنا سؤالا جوهريًّا حول طرق التواصل والتفاعل والخيط الرابط بين كل هذه الثقافات المختلفة والثريّة. كيف تتواصل العربيّة مع الهنديّة والصينيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة والروسيّة وغيرها من اللغات؟ ومن بين دفّات كُتب التاريخ جاءنا الردّ بكل وضوح: الترجمة وحوار الحضارات. فقد أدرك القدامى كما المحدثون أهمية الترجمة ومحوريّتها في عمليّة التثاقف وعبور العلوم والمعارف من حضارة إلى أخرى، وهو ما يُبرّر تأسيس الخليفة المأمون في بغداد ما أطلق عليه «بيت الحكمة » بوصفه وسيلة نوعيّة لاكتساب المعارف. وعلى امتداد التاريخ البشريّ شكّلت فترات الفورة في الترجمة أزمنة للتغيير الثقافيّ الجذريّ. وعندما يتناول سكوت مونتغوميري حركات المعرفة عبر الثقافات والزمان، يذكر أنّ «الترجمة شكّلت في اليابان بين 1750 و 1860 الحجم الأكبر من العمل العلميّ، وكان من المتوقّع عمومًا أن يكون معظم العلماء مترجمين أوّلاً قبل أن يكونوا عاملين في التجارب والحقول العلميّة أو أن يكونوا أصحاب نظريّات. كانت فكرة الإسهام خلال هذه الفترة في العلم
اليابانيّ تعني قبل كل شيء، زيادة حجم مكتبة المصادر النصّيّة العلميّة 3.» ومع الاعتراف المتداول في أيّامنا بعدم وجود تطابق لغويّ تامّ بين اللّغات، انتفى في عملية مرور العلوم التعارض الثنائيّ بين الأصل والترجمة لتحلّ محلّه عملية تطوّر وخطوة أكبر على طريق نموّ الحياة المعبّرة التي ولّدها النص الأول. وهكذا يرى مونتغوميري أنّ العرب أعطوا إلى بطليموس صفة التوحيدية كما أكسب اليابانيوّن نيوتن معاني كونفوشيّة. وبما أنّ احتفاليّة الدوحة عاصمة الثقافة العربيّة تمسّ هذه المفاهيم الثقافيّة الجوهريّة، فقد اخترنا أن نفتتح الفعاليّات بأوبريت كان اسمها «بيت الحكمة » حيث سعينا إلى ترسيخ مفهوم التثاقف بأن خصصنا بعد انتهاء الفعالية فضاء في مقرّ وزارة الثقافة والفنون والتراث يحمل الاسم الدلالي نفسه «بيت الحكمة .»
التفتنا في خضمّ هذا الانفتاح على الآخر، بل على كلّ الآخرين، إلى الحكمة التي أوردها الباحث الإيرلندي مايكل كرونين الذي ترجمت الوزارة كتابه «التّرجمة والعولمة » بمناسبة الاحتفاليّة، عندما كتب: «إنّ خوفنا من أن نفنى أو نُغلب أو أن نتقوّض هو بالضبط ما يمكن في كثير من الأحيان أن يملي موقفنا من الآخرين أو تصرّفنا نحوهم. وعبارة «لا تتكلم مع الغرباء » هي القطعة الوعظيّة النظاميّة والقيميّة التي ينقلها الآباء وأولياء الأمور والمدارس إلى الصغار.
ومهما يكن، فما يمكن أن يكون حاميًا لعالم الطفولة قد يُصبح مدمّرًا في سنّ الرشد، إذا تصلّبت نصيحة جيّدة واستحالت عدمَ اكتراث، أو بصورة أدعى للقلق، صارت تعصّبًا.
 بيت الحكمة: مجتمع المعرفة العقلانيّة
في عمل استعراضيّ باهر يدمج الدراميّ بالتعبيريّ، افتَتَحت أوبريت «بيت الحكمة » احتفالية الدوحة عاصمة الثقافة العربيّة 2010 . ويستخدم العمل أمثولة تنتصر للمعرفة والفكر والفنّ والأدب، وهي تنتصر، إلى جانب ذلك، إلى التبادل الثقافيّ وحوار الحضارات متمثّلة في بيت الحكمة البغداديّ الذي تأسّس حول التّرجمة والتّعرّف على إبداعات الآخر لاستبطانها وإنتاج معارف جديدة تنتشر بدورها في فلك العقل والوجدان الإنسانيّ غير عابئة بالحدود ولا الأجناس في مخاطبتها العقل البشريّ. «إن بيت الحكمة الذي أسّسه الخليفة المأمون، كان تجربة رائدة وفريدة تعكس حكمة القرار الواعي الذي يُقدّر دور العلم في بناء الإنسان والمجتمع، مع تهيئة المناخ الميسّر لذلك تنظيمًا وتمويلاً وتدريبًا للكفاءة البشريًة، فكان بيت الحكمة محطّة الانطلاق الرّاسخة التي أنتجت هذا الزّخم الحضاريّ الرفيع الذي عمّ جوانب البشريّة لمئات السنين »  (الكواري، 2010).
وكانت رسالة الأوبريت نداء لضرورة إحياء الثقافة بوصفها مجالاً حيويًّا لا يقلّ شأنا عن مجالات الحياة الأخرى. وهي تتناول شخصية المأمون الذي تملّكه هاجس المعرفة منذ طفولته، حيث آمن بأن العقل هو درّة الإنسان والمعرفة أداته الرئيسة، وهذا ما دفعه عندما أصبح خليفة إلى أن يصرف جلّ جهده في تأسيس مركز إشعاع علميّ ومعرفيّ طال أثره سائر أقطار الوطن العربيّ والإسلاميّ وشعّت منتجاته في العالم برمّته وأطلق عليه «بيت الحكمة من مراجعة جلّ الدراسات الجادّة حول «بيت الحكمة » والمحرّرة بلغات مختلفة يتضّح أن الأمر لا يتعلّق بمشروع ترجمة ضخم متقدّم على عصره بقدر ما هو رؤية جديدة لتأسيس مجتمع المعرفة العقلانية. بل يمكن أن نضيف إلى ذلك مقاربة جامعة الدول العربيّة في هذا الصدد والتي ترى أنّ «تأسيس )بيت الحكمة( في بغداد، على أيدي العبّاسيّين، ]كان[ حدثًا ثقافيًّا بالغ الأهمّيّة في تاريخ الحضارة العربيّة الإسلاميّة، إذ لم يكن مجرّد مكتبة ومركز للترجمة والتأليف والمناظرة والنَّسخ فحسب، وإنّما كان أيضًا
)مسرحًا( للحوار بين حضارات الشرق والغرب، آنذاك، ولاسيّما: الحضارة العربيّة الإسلاميّة والحضارات اليونانيّة )الإغريقيّة( والفارسيّة والسّريانيّة والهنديّة. »
لقد أتاح مشروع «بيت الحكمة » انتقال العلوم والمعارف بين الشعوب والحضارات وانتشارها في الحيّز العربيّ الإسلاميّ من الخليج إلى المحيط في الأندلس، ثمّ إلى العالم الغربيّ برمّته لتنتشر المعارف مَشاعة مُتاحة لكلّ بني البشر، كما يُثبت ذلك عالم الفيزياء البريطانيّ جيم الخليلي في كتابه: «بيت الحكمة: كيف أنقذ العرب المعارف القديمة وأهدوا لنا عصر النهضة .»
لقد أنشأ المنصور «خزانة الكتب » لتكون مستودعًا لأمهات المصنّفات والمصادر القيّمة، لكن المأمون حوّل الخزانة إلى «بيت الحكمة » لأنّ الخزانة وإن اتّسعت وازدانت بما فيها ليست سوى حاوية دون روح بينما يفترض البيتُ وجودَ سكّان بما يعنيه ذلك من نشاط وحياة. فسَكَنَ البيتَ علماء من كلّ الخلفيّات العلميّة والثقافيّة واللغويّة.
والطّريف أننا نشاهد في عصرنا الحاضر توجّهًا مماثلاً في وظائف المكتبات الوطنيّة التي توسّعت لتُصبح مكان لقاء وتبادل وليس مجرّد مخزن للكتب، بل هي تُمثّل اليوم رمزًا مهمًّا للدّول، على غرار العَلَم والنشيد الوطنيّ، يُبرز اهتمامها بالمعرفة وحرصها عليها مثلما هي حال مكتبة الكونغرس الأمريكيّ والمكتبة الوطنيّة الفرنسيّة والمكتبة البريطانيّة ومكتبة الفاتيكان وغيرها كثير. ولدينا في قطر المكتبة الوطنيّة التي جمعت بين كنوز المخطوطات الثمينة وإدارة حديثة وفق آليات الرقمنة والعصر المعلوماتيّ.
لقد أدرك المأمون أنّ حصيلة المعارف والعلوم ملك للبشريّة قاطبة دون الالتفات إلى الأجناس والألوان والعقائد، ولذلك لم تكن وظيفة بيت الحكمة خزن الكتب مؤلّفة أو مترجمة أو منسوخة كانت، بل عملية شاملة لاحتضان حوار بين الحضارات العربيّة والهنديّة واللاتينيّة واليونانيّة والسنكسريتيّة وغيرها دون حدود جغرافية أو لغوية أو عقَدية.
طموح بلا حدود
لكنّ طموحنا في احتفالية الدوحة عاصمة الثقافة العربيّة 2010 ، بعد أن ربحنا الرّهان ورفعنا التّحدّي وأفحمنا المشكّكين وطمأنّا الخائفين، كان أكبر من مجرّد نجاح الاحتفاليّة على أهمّيّة ذلك.
فالأهمّ عندنا هو أن تكون الدّوحة بالفعل عاصمة من عواصم العالم الثّقافيّة معترفا بها إقليميًّا ودوليًّا. وهذا ما دَفَعَنا إلى العمل على أن تتمتّع العاصمة ببنية تحتيّة ثقافيّة متطوّرة متنوّعة ثريّة من متاحف ومسارح ومعارض وأحياء ثقافيّة ...إلخ.
كتارا وسوق واقف
وهذا ما أتاح للدّوحة أن تُواصل النّشاط الثّقافيّ على مدار السّنوات كما هو الشأن في الحيّ الثّقافيّ «كتارا » الذي يمثّل، بإمكانيّاته الضّخمة، رئة ثقافيّة تتنفّس منها الدّوحة فنًّا وإبداعًا وبهجة بفضل الفعاليات القطريّة والعربيّة والأجنبيّة المتواصلة. والحقّ، دون مبالغة ولا تزيّد، أنّ كتارا صرح ثقافيّ عالميّ يمثّل ملتقى لروافد ثقافيّة متنوّعة يجمع إلى متعة الفكر والذّهن متعة الحواسّ، بفضل موقعه الاستراتيجيّ وسط العاصمة مُطلاًّ على مشهد بحريّ من أجمل المشاهد جمالاً ورَونقًا وسحرًا.
يتّسم الحيّ الثقافيّ كتارا بالروح القطرية في طرازه ومعماره، وهو مع ذلك يستخدم مفردات معماريّة من الثقافات كلّها نُشاهدها في مسرح الأوبرا وفي المسرح الرومانيّ كما نلمسها في تنوّع المطاعم وتقاليد الطبخ التي يمكن الاستمتاع بها في سلسلة المحلاّت المطلّة على الخليج الغربي للدوحة. وفوق كلّ ذلك، أصبحت كتارا خليّة نحل من الإبداع والابتكار وملتقى الأدباء والفنّانين، يقصدها الزائرون من دول الخليج العربيّ ومجمل أقطار العالم.
أحبّ كذلك أن أتوقّف قليلاً عند سوق واقف، هذه السّوق الشّهيرة لدى أهل بلدي ولدى زائريها من عامّة النّاس ومشاهير السّياسة والثّقافة ونجوم الرّياضة والفنّ. غير أنّ هذه السّمعة التي تحظى بها السّوق تعود إلى سرّ لا يتبيّنه إلاّ العارفون بدقائق مفهوم الثقافة في أوسع معانيها.
لقد أعيد إنشاء السّوق بالحجارة والجبس والطّلاء والخشب الذي كان أهل بلدي يستعملونه في بيئة حارّة حرارةً قاسية أحيانًا ليحافظوا على جوّ منعش رحيم. ولم يكن المشروع رهين الاعتماد على مفردات العمارة القطريّة الأصيلة بل جُمعت بأسلوب علميّ شهادات كلّ من كان يعمّر السّوق من البشر باعة ومشترين ومُلاّكًا وزائرين. فالبشر وخيالهم الاجتماعيّ أهمّ من الحجارة مهما كانت نفاستها. إذلم يكن المطلوب إنشاء مسخ لا يقبله وجدان النّاس بل المطلوب أن يكون المكان متناسقًا مع النّفسيّات والذّهنيّات وأن يكون في آنٍ واحد مضطلعًا بوظيفته الأساسيّة التّجاريّة وما يحفّ بها من دلالات وأبعاد ثقافيّة بالضرورة.
ومجمل القول أنّ سوق واقف تمثّل صورة واقعيّة عن الامتزاج اللاّزم بين الحداثة والتّراث، والتّفاعل المخصب بين النّخبة والجمهور، والتّرابط المنشود بين الفنّ والحياة اليوميّة، دون أن تكون الأصالة عائقًا أمام التّحديث ودون أن تكون الحداثة مدمّرة للأصيل. في التّنمية الثّقافيّة
ولا أخفي على القارئ الكريم أنّ نجاح الدّوحة عاصمة للثّقافة العربيّة 2010 قد مثّل في تاريخ التّنمية الثّقافيّة ببلادي نقطة تحوّل أساسيّة. فقد رسّخت الوعي بأهمّية الثّقافة ودورها الاجتماعيّ.
ولكنّها في واقع الأمر كانت لحظة ضمن مسار عقلانيّ واضح التّخطيط واسع الأبعاد هو «رؤية قطر »2030 لتأسيس مجتمع المعرفة. فوراء هذه الاحتفاليّة، كما هو الشّأن بالنّسبة إلى مختلف المنجزات الثّقافيّة في بلدي، تصوّر واضح لما يُسمّى في الأدبيّات الدّوليّة «التّنمية الثّقافيّة .»
والحقّ أنّه لم يعد اليوم خافِيًا على أحد، دولاً ونخبًا وحتى أفرادًا، الرّابط بين الثّقافة والتّنمية باعتبار الثقافة عاملاً من عوامل التنمية المحدّدة لها وإن كانت العبارة في أوّل أمرها نابية محفوفة بالأسئلة والشّكوك. فلئن كانت الثّقافة في أعمق مدلولاتها وأبسطها منظومة قيميّة منغرسة في وجدان الفرد جامعة بين أفراد المجموعة الواحدة فإنّ مفهوم التّنمية بما يقتضيه من تخطيط وبرامج وسياسات مفهوم عمليّ إجرائيّ. فكيف يكون الحميميّ الذي يسري في الوجدان سريان الدّم في العروق، كما شبّهنا من قبل، أمرًا قابلاً للتّنمية؟
غير أنّ هذه الحيرة بإزاء مفهوم التّنمية سرعان ما تزول حين نتدبّر أمر المؤسّسة المدرسيّة باعتبارها حاضنة لتنمية العقول والمواهب وتغيير الذّهنيّات وتطوير الكفاءات. فهي تخضع إلى برامج وسياسات وتخطيط لرسم ملامح مواطن الغد، وبرهنت في الواقع عبر السّنين على أنّ صناعة البشر والعقول من الأمور الممكنة بل المفيدة لتنمية المجتمع. ولكن أهمّ ما أوجدته مؤسّسات التّعليم الحديث هو إتاحة الفرصة لقطاعات اجتماعيّة واسعة كي يكون النّفاذ إلى المعرفة مُمْكنًا أليس أساس الدّيمقراطيّة تساوي الفرص وتمكين أوسع القطاعات من المشاركة ؟
هذا مربط الفرس في نظري بالنّسبة إلى التّنمية الثّقافيّة. فهذا المفهوم الإجرائيّ يعبّر عن العمل على جعل الثّقافة متاحة للجميع، وما المشاركة الثّقافيّة إلاّ النّفاذ إلى المعارف والمعلومات وعالم القيم ولا تكون إلاّ برسم السّياسات المناسبة. وراء ذلك يوجد مبدأ مهمّ في المجتمعات الحديثة أساسه استمراريّة صنع الإنسان الواعي خارج السّياق المدرسي. فالثّقافة هي حاضنة هذا الوعي والأداة التي تحافظ بها القيم على توهّج نارها.
ليس هذا الذي نقوله عن التّنمية الثّقافيّة بمعزل عن تجسيم الدّيمقراطيّة الأصيلة في المجال الثّقافيّ. وهي ديمقراطيّة تنبني على جعل كلّ فرد قادرًا على الحصول على الثّقافة والوصول إلى منتجاتها وذلك بتعميم المسارح والمتاحف والمكتبات والمعارض... إلخ.
وقد اخترنا في قطر أن تذهب الثّقافة إلى النّاس في الأسواق والشّوارع وأن تندمج في الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة حتى نكسر الدّائرة المفرغة التي تجعل الثّقافة حكرًا على من لهم حظٌّ من التّعليم والثّقافة يستفيدون منها دون عامّة النّاس. وقد أتت هذه التّجربة أكلها بإدماج قطاعات واسعة من النّاس في «الدّورة الثقافيّة » التي أقحمناها في الدّورة التّجاريّة العاديّة.
ولنا في هذا تجربة مهمّة قامت على إدراج المستحدث في باب الفنون والإبداع والأشكال الجديدة للنّشاط الثّقافي ضمن ديناميّة  إحياء التّراث المادّي وغير المادّي والتّعريف به وتثمينه ليكون صورة من امتزاج الحداثة بالموروث امتزاجًا خلاّقًا يتنزّل في البيئة القطريّة.
كلّ هذا استدعى التّفكير العقلانيّ المنظّم في الوسائل والأدوات والمعايير ضمن تخطيط وبرامج ومراكمة للتّجارب النّاجحة والسّلوكيّات الجيّدة حتى تكون الثّقافة حاضرة على امتداد السّنة متواصلة مع محيطها البشريّ والمادّيّ.
هكذا أفهمُ التّنمية الثّقافيّة في بعدها الاجتماعيّ. فهي عندي إتاحة الفرصة للفرد والوصول إلى المنتج الثّقافيّ عسى أن يشبع حاجاته الثّابتة من الفنون والمعاني والرّموز التي يتقاسمها مع النّاس. وأساسُ ذلك العملُ على تجويد الحياة بكلّ أبعادها. وهذا التّفاعل الثّقافيّ بين مختلف مناحي الحياة اليوميّة هو مظهر من مظاهر ما أصبح منذ عقود يُعرف بالتّنمية الشّاملة التي تُدمج الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثّقافيّ. فليست المسألة مرتبطة بإلحاق الثّقافة بضروب التّنمية المادّيّة. إذ إن الواقع يثبت أنّ التّطوّر الاقتصاديّ ينعكس بصفة شبه آليّة على التّطوّر الثّقافيّ دون أن يضمن بالضّرورة القصد من التّنمية الشّاملة.
لتوضيح هذه المفارقة أُشير إلى أنّ الاعتبار الحقيقيّ للثّقافة ضمن التّنمية الشّاملة لا يتوقّف على دعم الإنتاج الثّقافيّ والإبداع الفنّيّ فحسب. بل هو يعني أساسًا وبالخصوص أن يكون الإنسان بقِيَمه ورموزه في قلب التّنمية الشّاملة. فهو مبتدؤها وخبرها وأداتها ومحرّكها. إنّه غاية الغايات. 
فلئن كانت للتّنمية الاقتصاديّة مؤشّرات كمّيّة وكانت التّنمية الاجتماعيّة قابلة للقياس فإنّ معيار التّنمية الشّاملة ومقياسها يظلّ نوعيًّا مرتبطًا بإضفاء البعد الإنسانيّ على مجمل مخرجات التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة. ولا تعبّر عن هذا البعد الإنسانيّ إلاّ الثّقافة باعتبارها جملة السّمات المميّزة، مادّيًّا وروحيًّا، لمجموعة بشريّة مّا. لذلك تتطلّب الدّراسة الحقيقيّة للتّنمية الشّاملة الجمع بين المعايير الكمّية والمعايير النّوعيّة جمْعًا يغيّر نمط التّفكير نفسه في قضايا التّنمية ومقاصدها ووسائلها. فالثّابت أنّ الثّقافة لم تعد ترفًا ولا هي مجرّد ترفيه ولكنّها تمنح الوجود الإنسانيّ المعاصر معناه وتثبّت في «الإنسان الصّانع » بعده الرّمزيّ الذي بدونه لا يكون إلاّ آلة أو ملحقًا بالآلة.
ليست هذه النّظرة من باب التّفكير المجرّد. فتطوير البعد الثّقافيّ جزء من مقصد الرّفاهيّة العامّة التي تجري إليها كلّ تنمية. فمن وجوه هذه الرّفاهيّة تطوير القدرات الإبداعيّة للفرد والتّمتّع بالخدمات الثّقافيّة وإتاحة الفرصة للهويّة الجماعيّة كي تكشف عن مكنونها وللهويّة الفرديّة من أنْ تتشكّل وتتعامل مع محيطها البشريّ تعاملاً نقديًّا عقلانيًّا تواصُليًّا متفتّحًا. وكلّ هذا يتّجه نحو غاية أسمى هي تغيير السّلوكيّات الفرديّة والجماعيّة حتى يكون الأنس والتّآلف والأمل بديلاً من الوحشة والضّياع واليأس.
على أنّ هذا الفهم للثّقافة وتنميتها يُنبّهنا إلى أمر آخر مهمّ. فليس القصد أن تُتاح للمواهب الفذّة إمكانيّة التّفتّح والتّعبير عن نفسها لإثراء الرّصيد القيميّ والفنّيّ والرّمزيّ داخل المجموعة. فهذا مطلب ينبغي أن يظلّ حاضرًا في كلّ تخطيط ثقافيّ. ولكن ينبغي، علاوة على ذلك، أن ننظر إلى إشاعة الدّيمقراطيّة الثّقافيّة من ناحية أخرى. إنّها أسلوب لردم الهوّة بين النّخبة وعموم الشّعب. فليس أضرّ بالمجتمعات أن تكون النّخب المثقّفة في واد والجماهير في واد آخر. وهذا باب لو أبقيناه مفتوحًا لكان مدخلاً إلى استبداد الأقلّية وتحكّمها في رموز المجموعة واستفرادها بسلطة الثّقافة. وهو إلى ذلك مخالف للحقّ في الثّقافة باعتباره حقًّا إنسانيًّا معترفًا به في المواثيق الدوليّة كما في المقاربة الأخلاقيّة للتنمية الشاملة.
فوصول كلّ النّاس إلى المعلومة وتمتيعهم بالخيرات الثّقافيّة دليل من الأدلّة القويّة على نجاح أيّ مشروع تنمويّ. وإذا أمكن بلوغ هذا الهدف الذي يحقّق التّوازن المنشود بين النّخب المبدعة والجمهور الواسع القادر على التّفاعل مع نخبه أمكن تأكيد الهويّة الثّقافيّة وحماية الخصوصيّات والقيم والتّقاليد والمعتقدات مهما كانت الرّياح العاتية التي تهدّدها. بل إنّ تلك الرّياح مهما كانت قوّتها تصبح عاملاً من عوامل إدخال ديناميّة التّغيير والتّجديد ضمن الموروث الثّقافيّ ورتق الفتق بين الثّقافة المحلّية والثّقافة الكونيّة مثلما ردمت الهوّة بين الثّقافة العالمة والثّقافة الشعبيّة.



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved