"على قدر أهل العزم" لسعادة د/ حمد الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية - الحلقه الثانية.
في الجزء الاول من الحلقه الثانيه من سلسلة يتحدث الدكتور حمد الكواري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنية عن رأيه ورؤيته لقضايا الأدب العربي خاصة الرواية التاريخية والفنون المرتبطة بها.
أعترف أن دخولى المبكر العمل الدبلوماسي إضافة إلى تكوينى التقليدي.
عندما كنت طالبا في جامعة القاهرة إذ كان للروايات العربية دور استثنائي بحكم المرحلة الثرية في فترة دراساتى.
كانت القاهرة خلية نحل من النشاط الثقافي بوجود كتاب نستمتع بإبداعاتهم مثل توفيق الحكيم ومحمود عباس العقاد ومحمود تيمور وإحسان عبد القدوس.
فيما يلي الجزء الاول من الحلقه الثانيه من كتاب "على قدر أهل العزم"
الاستكشاف الجماليّ للعالم
الأدب
أعترفُ لك أيها القارئ الكريم أنّ دخولي المبكّر إلى دنيا العمل الدبلوماسيّ إضافة إلى تكويني التقليديّ صبغ علاقتي بالمعرفة بشيء من النفعيّة والبرغماتيّة. فالكتاب الجيّد في عقيدتي هو الذي يُعلّمني مفهومًا جديدًا أو يمدّني بمعلومة أرى بها الأشياء على وجه مختلف أو يعرض عليّ تصوّرًا مغايرًا لما استقرّ في وهمي أو يطرح عليّ إشكالاً يتطلّب مرانًا فكريًّا. وهذا ما يُسمّى في ثقافتي الأولى علمًا نافعًا يُفضي إلى العمل النافع. لذلك كانت القراءة جولة بين المعارف والأفكار ورحلة شاقّة ينبغي أن أعود منها دائمًا بغُنم قد يقلّ أو يعظم .
وقد كنتُ حريصًا على أن أنتقيَ كتبي بعناية باحثًا عمّا يثري أدوات النظر إلى الواقع ويُيسّر لي فكّ شفراته وتبيّن وجوه التعقّد فيه .
بيد أنّ الأمر كان مختلفًا عندما كنتُ طالبًا في جامعة القاهرةإذ كان للروايات العربية دورٌ استثنائيٌّ بحكم المرحلة الثريّة للحياةالثقافيّة في فترة دراستي، وقد كانت القاهرة آنذاك خلية
نحل من النشاط الثقافي بوجود كتّاب كبار نستمتع بإبداعاتهم وننهل من معارفهم مثل توفيق الحكيم ومحمود عبّاس العقّاد ومحمود تيمور ويحيى حقّي وإحسان عبدالقدّوس ويوسف السّباعي على سبيل الذّكر لا الحصر... وطبعًا يأتي في مقدمة هؤلاء الأدباء نجيب محفوظ الذي سأفصّل عنه الحديث بعد حين عندما أتناول موضوع الأدب وجائزة نوبل السويديّة.
والحقّ أنّ حدسي في انتقاء ما أحتاج إليه من الكتب، منذ أن أقرأ عناوينها وأتصفّح فهارسها وأطّلع على ما تيسّر من مقدّماتها أو خواتمها، قلّما خيّب ظنيّ. وقد ظللتُ على هذا اللون من العلاقة بالكتب إلى زمن غير بعيد حتّى قيّض الله لي من يُجدّد عقيدتي تلك في التعامل مع المعرفة. فممّا منّ به الله عليّ زوجة شغوف بالمطالعة تلتهم الروايات التهامًا، تقرأ من الأدب العربيّ الحديث جديده، ومن الآداب العالمية عيونها. كانت على هذا مذ عرفتُها ولم تُغيّر من عادتها تلك شواغلُ الحياة ولا وسائلُ الإعلام وإغراءاتها ولا ما يحفل به عالم الرقميّات من طرائف وبدائع. فكنتُ دائمًا أراها مبتهجة بما تقرأ وكثيرًا ما تودّ مقاسمتي انطباعاتها عن عوالم الروائيّين وحكاياتهم وأساليبهم في القصّ حتى تيقّنتُ من ذائقتها الأدبيّة الرفيعة التي تشكّلت بمَرّ الأيام وتتالي الصفحات.
وكنتُ أرى أثر هذه القراءات الأدبيّة بيّناً في انتباهها المرهف إلى دقائق ولطائف في النظر إلى الأشياء والمعرفة بالنفسيّات وأسلوب التعامل اليوميّ. وأعترف أيضًا أنّني كنت أرى أوّل الأمر في تلك الروايات التي تقرأها ضربًا من ضروب تمضية الوقت والتسلية عن النفس. فليس الأدب فيما كنتُ أتصوّر إلاّ أدب القدماء وكبار الشعراء والناثرين العرب بما فيه من حِكم خالدة وقِيم رفيعة نبيلة وأمثال سائرة، عليها يتربّى المرء ويتثقّف ويتعلّم .أمّا فنّ الرواية، وهو حديث في ثقافتنا العربيّة، فلا يعدو أن يكون لمجرّد التسلية وملء الفراغ ولم أره مندرجًا ضمن مفهوم العلم النافع الذي نشأتُ عليه، فإن هو إلاّ خيالات وشخوص من مداد يرسمها الكتّاب على الورق ويشدّ بها الأدباء قرّاءهم دون أن تكون من ورائها فائدة تُطلب.
وقد اعتقدتُ لفترة من الزمن أنّ الكتب بوصفها أوعية للمعرفة حمّالة للقِيم تُصنفّ في خطّين متوازيَين لا يلتقيان البتّة: خطّ الكتابات المنتجة المثرية المفيدة وخطّ الكتابات الخياليّة المسلّية .بيد أنّ هذَين الخطَّين التقَيَا بفضل زوجتي التي جذبَتني إلى الرواية جذبًا فانسقتُ إليها انسياقًا حتى عدّلتُ من عقيدتي شيئًا فشيئًا إلى أن استحكم في قلبي حبّ الأدب الروائيّ.
كانت «أمّ تميم» تقرأ عليّ أحيانًا فقرة لفتت انتباهها أو تدعوني إلى النظر في صفحة أو صفحتَين من كتاب لم تفرغ من قراءته بعدُ حتى وجدتَني يومًا أسترسل في قراءة رواية تاريخ فرأيتُ كيف اجتمع فيها نوع من العلم النافع وهو علم التاريخ والأسلوب الرائق الطازج الذي يمتاز به الأدب الرفيع والخيال المجنحّ الذي يعيد تركيب الوقائع التي مضت.
الخيط الرّفيع
ومن الجوانب المهمّة في الرواية التاريخية التي لفتت اهتمامى بعد أن قرأتُ منها نماذج مختلفة، وعلى رأسها روايات جرجي زيدان وكذلك روايات «العلاّمة» و«مجنون الحكم» و«هذا الأندلسيّ» لبن سالم حمّيش، العلاقةُ بين الرواية والتاريخ. وهذا ما حدا بي إلى عقد ندوة في الصالون الثقافيّ في وزارة الثقافة والفنون والتراث عن الرواية والتاريخ شارك فيها الأديب المغربي بنسالم حِمّيش. وبلادنا العربيّة حافلة بالروايات التاريخية من كتّاب كبار من المشرق والمغرب العربيَّين قرأتُ للعديد منهم ولا يتّسع المقام لذكرهم جميعًا.
كان هذا الصنف من الكتابة شاغلا من شواغلي الفكريّة والأدبيّة فأحببت أن أشرّك الجمهور فيه لما أراه من فائدة النقاش في المسألة وتوضيح ما يحفّ بها من إشكالات. كان السؤال الذي يشغلني دائما هو: «ما الخيط الرفيع الرابط بين التاريخ والخيال؟» وفي كلّ مرّة أتساءل وأنا أقرأ هذه الرواية أو تلك: «هل كانت الشخصيّة التاريخيّة تفكّر حقّا بذاك الشكلّ؟ هل كان ذلك موقفها فعلا؟ هل فعلت ما فعلت أم أنّ الكاتب نسب إليها أعمالا لم تأتها في الواقع؟»كانت أسئلة بسيطة في ظاهر الأمر يّة، تدلّ على انغماس في الرواية وعوالمها الأخّاذة ولكنهّا تُخفي في تقديري قضيّة أكبر. هل تخدم الرواية التاريخيّة التاريخ بتمكين أكبر عدد ممكن من الناس من الاطّلاع على بعض المراحل التاريخيّة أو الأعلام الكبار أم هي تقدّم تاريخًا آخر غير التاريخ الفعليّ الذي عاشه الناس؟
فنحن العرب مازلنا نحمل في ذاكرتنا الثقافيّة العربيّة الخلط بين التاريخ والتخييل الروائيّ للتاريخ كما يبرز في أعمال جرجي زيدان الرائد في مجال الرواية التاريخيّة. فممّا ثبت لدى الدارسين أنّ بعض رواياته، على الأقلّ، قد حوّلت في الأذهان تخيّلات غير صحيحة إلى حقائق تاريخيّة. ففي أيّ مستوى تتنزّل قراءة الرواية التاريخيّة؟ ماذا لو اعتقد القارئ أنّ ما يقرأه هو التاريخ كما حدث؟ ألا تصبح الرواية التاريخيّة نفسها بأجوائها المتخيّلة هي التاريخ الحقيقيّ؟
لا تخرج كتابة الرواية التاريخيّة عن معاناة الإبداع الروائيّ والفنيّ عامّة. ولكنهّا تتطلّب ثقافة ومعرفة وخبرة إذ ينزع فيها الفكر إلى النظر في بواطن الأشياء والاستعداد الروحيّ لمحاورة الأزمنة والأمكنة المختلفة.
في هذا الصّدد كان رأي حمّيش مبنيًّا على فرضيّة له عليها الدليل والحجّة ومفادها أنّ التاريخ كعلم أو فن في الثقافات التي مارسته، ظهر أصلا كرواية موضوعها الخبر. فالعلاقة بين التاريخ والرواية على هذا أعمق ممّا قد نتوهّم في بادئ النظر.
والطريف أنّه يمكن اعتبار المؤرّخ اليوناني هيرودوت الإيوني أوّل من جرّب التخييل التاريخيّ حتّى لقّبه الخطيب الروماني الشهير شيشرون بلقبين متضادّين: «أبو التاريخ» و«الكذّاب». فهو يلجأ إلى الكذب حين يتعذّر الخبر أو ليشوّق القارئ أو ليزيّن ما يرويه.
وفي الثقافة العربيّة الإسلاميّة نعرف ما ورد في المتون التاريخيّة القديمة من أخبار عن خلق الكون والإنسان ومن قصص الأنبياء والرسل، كما نعرف كتابات لا تخلو من أعاجيب وغرائب وخوارقوخيال واسع ينزاح عن المقبول عقليّا. هذا مع ما تحفل به كتبالتاريخ التي تقوم على الروايات والأخبار تجريحا وتعديلا من خرافات وعجائب وخيال مجنحّ .
ولعلّ ما يبدو لنا أقرب إلى السرد الخيالي في موروثنا الحكائيّ العربي هو كتب السِّيّر مثل سيرة عنترة وسيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس وتغريبة بني هلال. وهذا ما نجده كذلك في أدبيات الرؤى المناميّة والتوهّمات والخوارق والغرائب والعجائب، وكتب الرحلات .
هذا التذكير بثراء المتن السرديّ العربيّ القديم مهمّ من جهات عديدة. والحاجة إلى التراث والتاريخ بالنسبة إلى المبدع العربيّ أكيدة لا مناص منها «فهذا التراث، قطاعيّا أو في أهم مرافقه، يمثل الحقل الطبيعي لتكوّنه اللغويّ والذهنيّ، كم يشكّل ذاكرة ومرجعا لشخصيّة الروائيّ القاعديّة وتعريفا لظهوره في العالم... إنّ من لا يعي تلك العلاقة ينساق إلى ممارسة حداثة مهزوزة أو عدميّة سائبة غير مسؤولة». وفي هذا ردٌّ على النظرة المركزيّة الأوروبيّة التي تربط الرواية في نشأتها بسرفانتس وروايته «دون كيشوت.»
تكمن وراء هذا رؤية أشمل تجعلنا نرى في كلّ شيء تاريخا وتراثا كما يُعبّر عن ذلك كارلوس فوينتس: «كلّ رواية تصير مع الزمان تاريخيّة. إنها إجابة على الزمن، الذي بالأحرى تخلقه. فهناك رواية الزمن وزمن الرواية. والروايات الأكثر أهميّة هي تلك التي تبدع الزمن، تبتكر زمنا بدل الاكتفاء بعكسه. لكن لا توجد رواية غير تاريخية، ولا يوجد عمل أدبيّ أو فنيّ يتموقع خارج الزمن ،خارج التاريخ .»
وليس أدلّ على هذا من تجربة عبقريّ الرواية العربيّة الحائز على نوبل للأدب نجيب محفوظ. فقد بدأ باتّخاذ التاريخ إطارا تتحرّك فيه الأحداث وتنمو العلاقات وتتطوّر الشخصيات وذلك في ما يسمّيه النقّاد بالروايات الفرعونية )خصوصا «كفاح طبيبة »و«عبث الأقدار» و«رادوبيس»( التي كتبها مستعينا بخياله المبدع .ولكنهّ حين انتقل إلى ما يسمّى بالرواية الواقعيّة الاجتماعيّة بدءا من «القاهرة الجديدة» ثمّ بالخصوص في الثلاثية «بين القصرين »و«قصر الشوق» و«السكرية» سرعان ما أصبحت روايات تاريخيّة يحتاج كلّ من يريد أن يدرس تاريخ مصر المعاصر أن يطّلع عليها.
لكنّ حاجة الناس إلى التخييل الروائيّ للتاريخ تعود إلى أمر أبعد شأوًا. فمجال الرواية يسمح بالتعمّق في ما تسكت عنه كتب التاريخ وهو المجال النفسيّ الباطنيّ واللاّشعوريّ ومجال الحياة اليوميّة لمختلف الشرائح الاجتماعيّة بما أنّ التاريخ الرسميّ لم يكتبها نفورًا أو عجزًا عن الاقتراب منها .
ولئن كانت هذه المجالات الباطنيّة والهامشيّة ممّا أهمله المؤرّخون فإنها في حقيقة الأمر تُمثّل بالنسبة إلى الرواية التاريخيّة مادّة أثيرة ومرتعًا خصبًا للكتابة والتخييل. إنّ الخيال في الرواية التاريخيّة هو الأداة التي تمكّن الروائيّ، ومن بعده القارئ، من ملء الفجوات بين الواقع الذي ينقله التاريخ منقوصا والتاريخ الفعليّ بتعقّده واحتمالاته. فالرواية التاريخيّة إذا كانت محكمة البناء عميقة النظر طالعة من بين أنامل روائيّ مثقّف أمين يحترم أخلاقيّات الكتابةالفنيّة وصرامتها جاءت على صورة لا تقلّ قيمة في كشف الحقيقةالتاريخيّة والإنسانيّة العميقة .
إنّ الروائيّ بخياله الثاقب ومعرفته بالنفس البشريّة وخبرته في رسم الشخوص وتحليل الوضعيّات قادر أيضا على تقديم التاريخ على نحو مستساغ فكريّا وبالخصوص على نحو جميل ممتع مؤثّر .مرّة أخرى نجد أنفسنا أمام الجماليّات في تفاعلها مع الأخلاقيّات لتحقيق الفائدة والمتعة حتّى نرى أنفسنا في مرايا التاريخ الإنسانيّ، بتقلّباته وشوقه إلى الحرّيّة وصرخاته المدوّية أحيانا، بشكل أفضل .