آخبار عاجل

الجزء الثاني من الحلقة الثانية من كتاب "على قدر أهل العزم" لـ د/ حمد الكواري

07 - 09 - 2023 11:17 1782

ما يقال عن الرواية ولا سيما الرواية التاريخية يمكن أن يقال عن الدراما التلفزيونية وبالذات التاريخية منها بل الدراما أوقع اثرا لأن دائرة تأثيرها أكبر لدى الناس
قد زرت أسطنبول في أواخر عام 2014 وتجولت في قصر البال العالى أو الأستانة أو توبكابى, وكنت في ذلك الفترة قد شاهدت الجزء الاخير من مسلسل " حريم السلطان"
محاضرات نوبل:الجمال والاخلاق
تأتى متعة محاضرات الحائزين على جائزة نوبل للأدب مما فيها من بوح بأسرار الكتابة والمؤلفين.
وفيما يلى الجزء الثاني من الحلقه الثانيه من كتاب "على قدر أهل العزم"

الجزء الثانى من الحلقة الثانية
    
وما يُقال عن الرّواية،  ولاسيّما الرّواية التّاريخيّة،  يمكن أن يُقال عن الدّراما التلفزيونيّة، وبالذات التاريخيّة منها، بل إنّ الدّراما أَوقَع أثرًا لأنّ دائرة تأثيرها أكبر لدى الناّس.  ولا يقتصر جمهورها على النخّبة أو المثقّفين عمومًا بل يتخطّاه إلى شرائح عريضة جدًّا من المشاهدين.  وفي كثير من الأحيان،  تُصبح الدّراما التلفزيونيّة التّاريخيّة المصدر الوحيد لدى المتلقّين لمعرفة التّاريخ،  وأنا أشيرُ هنا إلى عامّة الناّس من الذين لم ينالوا قسطًا كافيًا من التعليم. وفي عالمنا العربيّ، بل ربّما في معظم أنحاء العالم، تُشكّل عامّة الناّس أغلبيّة مطلقة.
وأذكر على سبيل المثال لا الحصر مسلسل )حريم السّلطان( ،وهو دراما تلفزيونيّة تاريخيّة من إنتاج تركيّ جرت دبلجته إلى العربيّة،  وكان له جمهور كبير.  وتتناول حلقات المسلسل حياة السلطان سليمان القانونيّ،  أحد أبرز السّلاطين العثمانيّين،  لتظهره في صورة زير نساء مُحاطًا بالجواري، ولا شغل شاغلًا له إلاّ النساءومعالجة مكائدهنّ ومؤامراتهنّ في قصوره.

وفي الواقع،  تشير البيانات والوثائق التاريخيّة إلى أنّ سليمان القانونيّ هو الخليفة العثمانيّ الثاني الذي حمل مسمّى أمير المؤمنين،  وأوّل سلطان يصل إلى الحكم بشكل سلميّ.  وبما أنّه كان أكثر السلاطين تمسّكًا والتزامًا بالقانون، أو ما يُطلق عليه اليوم: 
دولة القانون والمؤسّسات، فقد أُطلق عليه «سليمان القانونيّ»، بينما أسمته الدول الأوروبّيّة «سليمان الرّائع» أو المهيب . كان السّلطان لا يُقدم على قرار إلاّ اعتمادًا على فتوى، وكان فاتحًا كبيرًا تضاعف في عهده حجم الخلافة.  ورغم تقدّم سنهّ كان يشارك في المعارك حتّى تُوُفّي وهو يقاتل في بلاد المجر 
وعمره  76عامًا.  وقد بنى خلال حكمه أكبر مسجد يُسمّى باسمه «السليمانيّة»  وراعى في تصميمه استخدام الصّدى لإيصال الصّوت إلى آلاف المصلّين ،كما كان فناّنًا رقيقًا ومصمِّمًا للحليّ والمجوهرات. وجاء في بعض الرّوايات أنّ قلب السلطان انتُزع منه بعد موته ودُفن في المنطقة التي تُوُفّي فيها في بلاد المجر أثناء غزوة سيكتورا.  وهو ما يُفسّر أنّ له اليوم قبرَين،  أحدهما في المجر للقلب والأجزاء الذاخليّة والآخر في إسطنبول للجسم. وعلى الرغم من هذا التاريخ المشرّف لصاحبه،  وبتأثير مسلسل «حريم السّلطان»  قد لا يبقى في أذهان الناّس إلاّ كونه كرّس كلّ وقته للجواري والحريم ومكائدهنّ.
وقد زُرتُ إسطنبول في أواخر عام 2014 وتجولت فى قصر الباب العالى 
 أو الأستانة أو توبكابي،  وكنتُ في تلك الفترة قدشاهدتُ الجزء الأخير من مسلسل «حريم السّلطان».  والطّريفأنّني تخيّلتُ أنّني التقيتُ في أحد دهاليز القصر بالسّلطان سليمان القانونيّ بنفسه. كان في منتهى الاستياء والغضب من تشويه صورته في هذا المسلسل،  فقلت له إنّ التاريخ كتب عنه الكثير وأنصفه وسألتُ عن سبب غضبه، فردّ عليّ: «إنّ الناّس في عالمكم اليوم لا يقرؤون ويستقون جلّ أخبارهم ومعارفهم التاريخيّة من مسلسلات التلفزيون أو ما تطلقون عليه الدراما التلفزيونية التاريخيّة، فأنصفني واكتُب ليعلم الناّس حقيقة الأمور!» ولمّا عدتُ إلى الدوحة كتبتُ هذا في الإنستغرام ... وبالعودة إلى فنّ الرّواية، هكذا تغيّرت نظرتي إلى تلك الكائنات المصنوعة من حبر الخيال فاكتشفتُ من خلالها أنّ هذا الفنّ العظيم يُبرز من عمق النفس الإنسانية بتقلّباتها وتحوّلاتها ومن تفاصيل الحياة البشريّة بمساراتها وتعرّجاتها ما يُغيّر نظرتنا إلى الأشياء والإنسان والحياة.  فهذا الخيال صار عندي من العلم النافع أيضًا وإن على معنى غير المعنى الذي كنتُ أفهم به النفّع حتى تأكدتُ من أنّ للحكمة القائلة: «الواقع أغرب من الخيال»  رديفًا هو: 
«الخيال أصدق إنباءً عن الواقع.»
ومن المؤكّد أنّ قضية الرواية والتاريخ ستبقى محلّ نقاش الباحثين والمهتمّين بالشأن الأدبي،  والعلاقة بينهما جدليّة من الصّعب حسمها.
لقد أدركتُ أنّ الأدب خطير جدًّا، أخطر ممّا كنتُ أعتقد. فهويُخرج العرائس الروسيّة التي يُخبّئها الكائن الإنسانيّ في تلافيف وجدانه ليُعبّر عن كيانه المتقزّح كالألماسة غموضًا وفتنةً ويكشف أطيافًا من وجودنا في أرقى درجات التسامي وطلب المستحيل، أو في أحطّها رذالةً ونذالةً. إنّ الأدب يُقدّم لنا معرفة بالإنسان لا تحيط بها لغة المفاهيم العلميّة ولا يُفصّلها التحليل العقليّ،  ففيه سرّ يجعل القارئ يفرح ويحزن ويتفاعل تعاطفًا وكرهًا ليرى في نهر المداد صورته أو أجزاء من تلك الصورة.
وثالث اعترافاتي لك أيها القارئ الكريم أنّ شغفي بالأدب جعلني ممّن ينتظرون الإعلان عن جائزة غونكور الفرنسية ذات الوقع الخاصّ عند  كلّ عودة أدبيّة في فرنسا مثلما أنتظر جائزة نوبل للأدب. فهاتان الجائزتان، بصرف النظر عمّا تثيرانه بين سنة وأخرى من جدل في الساحتَين الأدبيّتَين الفرنسيّة والعالميّة، فُرصتان نادرتان لاكتشاف أقلام لم أقرأ لها من قبل يشهدُ أهل الخبرة بالرواية على تميّزها وجدارتها بالاطّلاع عليه. ولا أُخفي أنّه بسبب هذا الجانب الشخصيّ الذي لا يعرفه الناس عنيّ بادرتُ، وأنا وزير للثقافة، إلى تكليف إحدى إدارات الوزارة بالعمل على اقتناء حقوق الترجمة العربية لمحاضرات الحائزين على جائزة نوبل للأدب حتى تكون وجهًا من وجوه تعريف القارئ العربيّ على أوسع نطاق ممكن بخلاصة تجارب كبار الكتّاب العالميّين وما يبوحون به وهم في ذاك المقام المهيب خلال حفل تسلّم الجائزة.  وقد حرصتُ أن تكون الترجمة بمواصفات جيّدة تليق بنصوص هؤلاء العظماءقدر حرصي على الاحتفاء بالإصدار الأول منها من خلال دعوةالبروفيسور كيال إسبمارك رئيس لجنة نوبل للأدب إلى الدوحة ،فألقى،  لأوّل مرة في العالم العربيّ وأمام جمهور من القطريّين ومن نخبة المثقّفين العرب،  محاضرةً عن معايير الجائزة في انتقاء الفائزين بها ومراحل استصفاء المتوّجين وآليات اشتغالها وبسطة عن تاريخها نشأةً وتطوّرًا. 
وقد وجدتُ البروفيسور إسبمارك حين استقبَلتُهُ في مكتبي في الوزارة على وجه الإكرام والتقدير لشخصه والتحية الصادقة للمؤسّسة العريقة التي يُمثّلها، متواضعًا تواضع العلماء، لطيفًا لطف الإسكندينافيّين، حكيمًا حكمةَ من حنكّته النقاشات رفيعة المستوى .وقد ذهب بنا الحديث في الأدب والثقافة في قطر والعالم كلّ مذهب، غير أنّني لا أزال أذكر إلى اليوم فكرتَين عبّر عنهما الضّيف الجليل، وكان قليل الكلام، بكل بساطة وعفوية.
كان انطباعه عن الدوحة لافتًا لنظري.  إنّها زيارته الأولى إلى بلدي فإذا به يندهش من بياض ناصع ملأ عينيَه فانبهر: بياض الثوب التقليديّ الذي نرتديه ونظافته وصفاؤه ونقاؤه. 
وشدّني منه أيضا تشبيهٌ ذكَرَه في ثنايا الحديث عن الثقافة إذ يرى أنها بذور ينبغي أن تُزرع سنويًّا لتُنبت حصادًا من المعنى والفكر والجمال وفيرًا.  وإذا صادف أن كانت السّنة،  لأمر ما عجفاء،  فإنّ الشعوب الأصيلة الواعية تجوع إذا لزم الأمر ولكنهّا لا تأكل تلك البذور أبدًا حفاظًا على حقّ الأجيال اللاحقة في بذر المعنى وفلاحةالفكر وتنمية الجمال. ذلك أنّها إذا ما أكلت البذور لن تجد ما تبذرفي السنة التالية... وهذه صورة كذلك من صور العلم النافع. 
محاضرات نوبل : الجمال والأخلاق
تتأتّى متعة قراءة محاضرات الحائزين على جائزة نوبل للأدب ممّا فيها من بوح بأسرار الكتابة ومن رؤى المؤلّفين. وتتأتّى أيضًا من تعبير أصحابها عن تعلّقهم بالمثل الأعلى الذي وضعت لأجله هذه الجائزة رغم التأويلات المختلفة لعبارة «التّوجّه المثالي» الواردة في وصيّة ألفريد نوبل.  فهذه المثاليّة هي في آن واحد الرّؤية الإنسانيّة والاهتمام بالقضايا الكونيّة.  إنّها موقف أخلاقيّ يصاغ بمفردات الجمال المستنبط من اللّغة ومتعة تكمن في ذاك التّوازن الخلاّق بين الجمال والأخلاق . وليس من الغريب أن نجد المحاضرين أمام لجنة نوبل للأدب يشيرون إلى هذا التّزاوج بين الأخلاق والأدب. فالرّوائي الإسباني كاميلو خوسيه سلاّ في محاضراته )سنة  1987(  يجعل الحكاية قائمة على «حسّ أخلاقيّ»  و«التزام جماليّ»  في آنٍ واحد لأنّ المبدع لا يمكنه أن يتجاوز إنسانيّته وهو يبحث عن الحرّية ويرفع «عاليًا راية الطّوباويّة.»  
وذهب الشّاعر جوزيف برودسكي )نوبل سنة 1987 ( إلى حدّ اعتبار الجماليات أمّ الأخلاقيّات، فإذا لم يكن «كلّ شيء مسموحًابه» في الأخلاق فلأنّه ليس «كلّ شيء مسموحًا به في الجماليات .»ووصل الأمر بالرّوائي البيروفي ماريو برغاس يوسا )نوبل لسنة 2010
 ( إلى الجزم بأنّ «الأدب الخالي من الأخلاق أدبٌ لا إنسانيّ».
وتدور محاضرات الحائزين على جائزة نوبل للأدب، في رأيي ،على هذين المحورَين.  فمن جهة هناك سعي إلى بيان ما أسماه أنطوني بيرجيس «الاستكشاف الجمالي للعالم»  ليكتب الأدباء ما أسماه غونتر غراس «روايتنا المشتركة»  المفعمة بروح «النظّرة الإنسانويّة إلى البشر»  بعبارة الياباني كنزا بورو أوي.  وهي نظرة يُلغى الأدباء داخلها الحدودَ ويتجاوزون العصورَ وهم يرسمون ملامحَ ما أسماه خوسيه سلاّ «الإنسان الكونيّ».  وهذه النظرة هي مصدر من مصادر الشّعور العميق بـِ«المواطنة العالميّة» التي حلّلها البيروفي ماريو برغاس يوسا من خلال تجربته الفرديّة،  داعيًا إلى عدم الخلط بين «القوميّة ضيّقة الأفق الرّافضة للآخر ومصدر العنف دائمًا وبين حبّ الوطن الذي هو شعور سليم وكريم.»
من جهة ثانية يكشف الحائزون على جائزة نوبل في الأدب عن أهميّة الأدب وخطورته باعتباره صناعة للأمل وشكلاً من أشكال الحفاظ على الحياة وحبّها بتطويع اللّغات الخصوصيّة لقول جوهر الإنسان وصنع «لغة كونيّة»  يُنتَقى معجمها من مآسي البشريّة ومن طوبى الحرّيّة في آن واحد.  فالسّرد علامة على نشأة الحضارة إذ تزامن ميلاد اللّغة مع ميلاد التّواصل بين البشر واختلاق الحكايات .
وهو مسار طويل تبلورت خلاله إنسانيّتنا وشكّل للإنسان المتوجّسخيفة من ألغاز العالم ومخاطره وتهديداته «حمّامًا منعشًا ومرسىآمناً». فما إن بدأت الجماعات تحلم جماعيًّا وتتقاسم خرافاتها حتى «أصبحت حياتها حلمًا ولذّة وفنطازيا ومصيرًا ثوريًّا يكسر العزلة ويحمل التّغيير والتّحسّن، ومعركة لتحقيق التّطلّعات والطّموحات »كما يقول يوسا .
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved