للأستاذ توفيق الحكيم (1898 - 1987) ولعٌ بالحمير، حتى أنها زاحمت عناوين ثلاث من كتبه، حاورها فيها وكتب على لسانها، وأنطقها بالحكمة وإنكار الذات، ووظفها للدلالة على الرمز في صورة فنية متكاملة يُلمح فيها إلى ما يريد، أنتج الحكيم كتاباته تلك بدافع واحد ذكره في مقدمة مسرحية الحمير، (كي يظل نبض الحياة في أمتنا قائمًا بوظيفته الحيوية ولا قيمة لحياة بغير وعى).
وقد صدرت كتبه تلك على فترات زمنية متفاوتة؛ (حماري قال لي) عام 1936، وضَمَنَهُ بعضًا من مقالاته، ونشر كتابه الثاني (حمار الحكيم) عام 1940، في شكل أقرب للقصة، وأخيرًا مسرحيته (الحمير) عام 1975.
والحكيم؛ إذ يكتب في أي من أنواع الأدب فإنه لا يلبث يحملك في خفة ساحر إلى نظرة فلسفية عميقة المعني بسيطة المظهر في إطار حكي بارع التطريز. يبهرك بتلقائيته ونعومة انتقاله من موضوع لآخر، فلا تشعر معه بتعب، ولا بتلك (الرجة) التي تصيبك في النقلات المفاجئة بين فكرة وأخرى فتشعر أنك تتسلق درجات سلم رأسي.
يحدثك في كتابه الأول عن ملابسات شرائه ذلك (الجحش) الأبيض، ومفارقات اصطحابه معه إلى حيث يقيم في أحد فنادق العاصمة، مع جانب من فِصال الناشرين معه لشراء حقوق طباعة ونشر بعض كتبه بثمن بخس، ثم رأيه في الريف المصري ودور المرأة، مع مقارنة بالغة العمق والدلالة مع نظيرتها الأوروبية، سواء بنات الأسر الأرستقراطية أو الشعبية، وذلك من خلال ترجمته لعمل سينمائي فرنسي تدور بعض أحداثه في القرية المصرية.
في حين حوى كتابه الثاني مقالات شتى في السياسة والأدب، وأكاد أُجزم أنه رغم مرور أكثر من ثمانية عقود على نشره، إلا أنه –مثل كثير من كتب الحكيم وقليل من كتب آخرين- ما زال يحتفظ بطزاجته وصلاحيته للقراءة اليوم وغدًا.
فإن داخلك شكٌ في ذلك سيدي القارئ، فطالع مقالاته المعنونة (حماري والحب، حماري ومؤتمر الصلح، حماري وحزبه، حماري والسياسة)، يقول في الأخير على لسان حماره أن تصوره لأهداف حزب ينوي تأسيسه تتمثل في (العمل لمصلحة الغير وإنكار المصلحة الشخصية)، فلا يسع الحكيم أن يعقب ساخرًا أنه يتفهم ذلك لكونه حمارًا وليس واحدًا من بني البشر، الذين لا يشك في إضافتهم كلمة (لا) قبل كل هدف، مُلمحًا أن وراء العمل السياسي تكمن كثير من المصالح الشخصية.
ولعلنا إذا نذكر الحمير لا يفوتنا حمار آلونسو كيخانو، المعروف بلقب دون كيشوت، في رواية الكاتب الإسباني ميجيل دي ثيربانتيس، والذي راح يطوف على ظهره المدن والقرى ويغير بقوة خياله العالم المحيط به، اصطنع حروبًا انتصر فيها، ومناظرات فكرية فأذهلت بلاغته وقوة حجته الحاضرين، نسج عالـمًا وهميًا من خيوط عنكبوت خياله.
وهناك أيضًا حمار أم عمرو، والتي نقل الجاحظ في شأنها ما تواتر على لسان رجل قابله في السوق قال له؛ (ذهب الحمار بأم عمرو/ فلا رجعت ولا رجع الحمارُ)، ولك أن تقرأ البيت بصيغة الجملة الخبرية فتستنتج أنه ينتظر عودتها، وبصيغة التوسل فتفهم منه أنه يدعو عليها، وبصيغة التقرير –وهي المقصودة- فتعلم أنه ينعيها.
ولم يقتصر دور الحمار على الأدب فامتد إلى السياسة، ففي خضم حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية منتصف القرن التاسع عشر، وصف معارضو أندرو جاكسون (1767-1845)، مؤسس الحزب الديموقراطي، بأنه حمار، فما كان منه إلا أن اتخذه –نكاية فيهم- رمزًا لحزبه، وفاز بالانتخابات لفترتين متتاليتين (1829 – 1837).
رحلة بدأت من فنتازيا الأدب وحطت رحالها على كراسي السياسة.. ولا يزال الحمار قادرًا على الإلهام.