وقفنا ننتظر إشارة المرور ريثما تأذن بالعبور، حين مرقت أمامنا سيارة بدا هيكلها غريبًا متنافرًا لافتًا للنظر؛ كانت من تلك السيارات التي يصنفها أهل الاختصاص تحت عنوان "سيارة شعبية"، وما في ذلك من تحقير أو تعظيم، فكل شخص يقتني ما يناسبه بحسب إمكاناته وميوله، اللافت في تلك السيارة، أن مالكها غَيَرَ وبدل فيها محاولاً محاكاة السيارات الرياضية؛ فأمال إطاراتها وخفض ارتفاعها، فخرجت في هيئة أقرب لمسخ، تظن معها أنها تعاني خشونة رُكب تمنعها من الوقوف مستوية، وآلام ظهر أحنت قامتها.
قال صاحبي وقد مالت شفتيه بابتسامة ساخرة، "أرأيت؟! غراب يقلد مشية طاووس"، ثم أردف غير منتظرٍ لإجابة، "هل ترى لذلك تفسيرًا؟".
تابعتُ السيارة حتى اختفت عن ناظرينا، ثم التفتُ إليه وعقبت (ربما رغبة مالكها العيش في حلم منعته إمكاناته المادية من تحقيقه!!)، فتمتم وهو يهز رأسه بكلمات أغنية لمحمد منير (لو بطلنا نحلم نموت..)، ثم انصرف كل منا في طريق، وإن بقيت صورة السيارة وصاحبها يشغلان تفكيري.
كان هناك احتمالان؛ الأول إدراك صاحب السيارة أن ما أدخله من تعديلات ظاهرية، لا يغير من مضمون حقيقتها في شيء، فهي هي بقوة محركها، ومستوى سرعاتها، وهذا أمرٌ لا غبار عليه.
أما الثاني؛ فَتَخَيُلُهُ –وربما يقينه- أنها صارت سيارة رياضية تناظر قريناتها من الماركات العالمية، التي قد يفوق تكلفة إعلان عن إحداها ثمن سيارته؛ مُستدلاً على ذلك بارتفاع ضجيج محركها بعد هدوء، وانفراج إطاراتها بعد استواء، وانخفاضها بعد ارتفاع حتى كادت تلحس أسفلت الشارع وترابه، وكأنه يضع قاعدة أن التشابه في الملامح، يعني التساوي في المهارات والإمكانات، وهنا مكمن الخطر، في انتقال أولئك الأشخاص للعيش في عالم من الخيال، وما هو من الواقع بقريب.
صورة تتشابه مع ما يفعله صاحب الكشك الجاثم على الناصية في مساحة لا تزيد عن مترين عندما يضع أعلاه لافتة تحمل اسمه مسبوقًا بكلمة "سوبرماركت"، ومركز التدريب الذي يهب لقب "مستشار" لكل من يحضر دورة تدريبية لا تزيد عن يومين في فرع من فروع القانون، ومن يسبق اسمه على الشاشة بلقب "خبير" وما هو من الخبرة في شيء. ومن إذا دخل مجلسًا دلق آراءه ذات اليمين وذات الشمال ظنًا أن فيها ما يشفي غليل السامعين.
في أوائل الثمانينات، أصدرت لجنة من خبراء أمريكيين تقريرًا تضمن تقييمًا لمنظومة التعليم الأمريكية، ولأن النتائج كانت صادمة (في رأي اللجنة)، فقد قدمت تقريرها تحت عنوان (الأمة في خطر). حدث هذا في وقت تزامن مع وصول مكوك الفضاء الأمريكي تشالنجر للقمر للمرة الرابعة (بعد ما سبقه المكوكين إنتربرايس وكولومبيا بخمس مرات لكل منهما)، فما كان من مسئولي التعليم في بعض البلدان النامية، ممن ينجزون بالكلام ما يعجزون عنه بالفعل، إلا أن أطلقوا أبواقهم بفضائل وعظمة نظمهم التعليمية وتفوقها على نظيرتها الأمريكية، متغافلين عن أفواج خريجين –بالكاد- يَفُكون الخط.
صور أقرب ما تكون لعالم دون كيشوت الواهم عندما تخيل حروبًا انتصر فيها بسيفه الخشبي، وسجالات خطابية ألجم فيها الحضور الافتراضي، وزين له خياله تصفيقهم الحار لبلاغته المزعومة.
عجز صاحب السيارة عن تحقيق طموحه بامتلاك واحدة رياضية فلجأ للخيال؛ صورة تتكرر عندما يتوقف المسئول عند الشكل دون الغوص في الجوهر، وحين يستبدل المنهج العلمي بالفهلوة، والخبرة بالخطب الرنانة، ليصنع عالـمًا من الأحلام يركض فيه على حصان خياله صوب طموحه المزعوم هربًا من المواجهة، ولعله لا يتوقف عند ذلك فيطلب من الآخرين الركوب خلفه !!.