آخبار عاجل

الفصل الخامس من كتاب "على قدر أهل العزم" لسعادة الدكتور حمد الكواري

30 - 09 - 2023 3:57 263

بين صراعات السياسة واختلافات الثقافة
في سنة 1984 انتقلتُ من واحدة من أهمّ عواصم العالم إغراءً ثقافيًّا وفنيًّا وهي باريس إلى مدينة ذات إغراء سياسي وثقافي مختلف وهي نيويورك. ولم تكن نيويورك من المدن التي تفتح كلّ أبوابها بسهولة لتسمح لك باكتشاف كنوزها المعرفيّة. لذلك بذلتُ الكثير من الجهد والوقت كي تُفصح لي «التفّاحة» -كما يسمّونها- عن مكنونها .
وكنتُ في العاصمة الفرنسيّة قد سعيتُ لمواصلة دراستي العليا والتسجيل في دكتوراه المرحلة الثالثة دون أن يُسعفني الوقت المتاح للسّير في الطريق حتى نهايته، وبقيت لديّ رغبة جامحة لا أستطيع مقاومتها في الحصول على الدكتوراه.  
وما إن طاب لي المقام في نيويورك حتى انطلقتُ في تحسين قدراتي اللغويّة في الإنجليزيّة بما يتيح لي التقدّم إلى الجامعة.  هكذا بدأت رحلة طويلة وممتعةمن الاتصالات بالجامعات حتى انتهى بي المطاف في جامعة ولايةنيويورك ذات الفروع المتعدّدة واخترتُ فرع ستوني بروك فيضواحي نيويورك المدينة .
وبالتّوازي مع هذا الالتزام البحثيّ كانت لديّ مسؤوليّة جسيمة تتمثّل في مهمّتي مندوبًا دائمًا لبلدي لدى الأمم المتحدة في ظرف دقيق.  فقد كانت الحرب مستعرة في منطقتنا بين جارَينا الكبيرَين العراق وإيران.  وكان عليّ حلّ المعضلة الشخصيّة المتمثّلة في متابعة أبحاثي ومتابعة هذا الأمر الجلل الذي تعيشه منطقتنا ويُهدّدها بمخاطر فادحة .
كان وزراء خارجيّة دول الخليج العربيّ يُدركون حساسيّة الوضع لذلك كانوا ضيوفًا دائمين لدى مجلس الأمن ساعين لإيجاد حل لهذه القضية الشائكة،  وهو ما تطلّب منيّ أن أكون إلى جانب وزيري متابعًا ومساعدًا في مهامّه .
أنهيتُ الموادّ النظريّة المطلوبة في الجامعة،  وبعد التشاور مع المشرف على رسالتي استقرّ الأمر على موضوع يحقّق الجمع بين ما كنتُ أمارسه يوميًّا في عملي ودراسة ذات علاقة به،  وبالفعل اخترتُ بعد أخذ وردّ وتفكير مستفيض «صناعة القرار في مجلس الأمن،  والحرب العراقية الإيرانية كحالة للدراسة».  طالت الدراسة بسبب انشغالي واستمرّت فترةَ عملي في الأمم المتّحدة بل زادت عليه بعام واحد،  إذ لم أُناقش الرّسالة إلا سنة 1990 عندما كنتُ سفيرًا في واشنطن.
والحقيقة أنّني وجدتُ صعوبات في جمع المراجع المتعلّقة بمحور الرّسالة وكانت نادرة وشحيحة بوجه عام، بل إنّني أزعم أنّ الرسالة شكّلت في آخر المطاف مرجعًا مفيدًا في نسختها العربيّة حول آليّة اتخاذ القرار في مجلس الأمن.
المشاورات
يحصل في مجال الدبلوماسيّة الدوليّة أن تمتزج المشاعر والمحاذير الشخصيّة مع العمل في دلالته المهنيّة. وهو ما جرى لي مع الأمين العامّ للأمم المتّحدة خافيير بيريز دي كويلار لدى زيارته لقطر آنذاك بينما كانت الحرب مشتعلة بين العراق وإيران .
وحول اللقاء الأوّل مع الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني أمير دولة قطر آنذاك كتبتُ في رسالة الدكتوراه: 
«من الثابت أنّ الاجتماع الهامّ الذي عقده الأمين العام للأمم المتّحدة مع الشيخ خليفة آل ثاني أمير دولة قطر ]السّابق[، كان له أثر حاسم في الترتيب لزيارة الأمين العامّ لكلّ من طهران وبغداد .
وقد حضر مُعدّ هذه الدراسة -بوصفه رئيس وفد قطر لدى الأمم المتّحدة-  هذا الاجتماع الذي عُقد في الدوحة بعد زيارة الأمين العام لكلّ من الرياض والدول الخليجيّة الأخرى. وعندما سأل أمير قطر الأمين العامّ عمّا إذا كان يعتزم زيارة بغداد وطهران أيضًا، أجاب الأمين العامّ بأنّه ليس في نيّته زيارة هاتين العاصمتَين أثناء جولته الحاليّة. وهنا أوضح أمير قطر السابق أنّه بدون زيارة هاتَين الدولتَين وهما الطرفان الأساسيّان في الحرب، لن تُحقّق هذه الجولة هدفها .
وقد ردّ الأمين العام على ذلك بأنّه لا يستطيع القيام بهذه الزيارة دونأن يحصل على ضمان بإمكانية التوصّل إلى وقف إطلاق النار، وإلاّأسفرت الزيارة عن توليد شعور واسع النطاق بالإحباط لدى الرأيالعامّ العالميّ.  وعندئذ قال أمير قطر السابق إنّه حتى لو لم تُحقّق الزيارة نتيجة مباشرة ملموسة، فإنّها من المؤكّد ستمثّل خطوة مهمّة على طريق وضع وقف إطلاق النار موضع التنفيذ.  ومع اقتراب الاجتماع من نهايته،  بدا واضحًا أنّ الأمين العام قد بدأ يقبل من حيث المبدأ اقتراح الأمير السابق، ولكنه أشار إلى عقبتَين: الأولى ،أنّه لا يستطيع الذهاب إلى العراق وإيران إلاّ إذا وافقا على
وقف القتال أثناء زيارته لهما.  والثانية،  أنّه لا بدّ أن يضمن وسيلة انتقال آمنة إلى البلدَين. وهنا عرض الأمير أن تكون طائرته الخاصة تحت تصرّف الأمين العامّ الذي رحّب بهذا العرض. وأعقب ذلك إجراء اتّصالات ناجحة عن طريق نيويورك للحصول على موافقة كلّ من العراق وإيران على وقف القتال أثناء الزيارة المزمعة. وقد ثبت فيما بعد أنّ هذه الزيارة كانت ذات أهمية بالغة في تحقيق هدف وقف القتال الذي طال السعي إليه (الكواري: 254 )
ولكم أن تتصوّروا مشاعري وإحساسي بالمسؤوليّة عن سلامة الأمين العامّ وهو يزور العاصمتَين والحرب تطحن رحاها، وكناّ قد دفعناه دفعًا لتلك الزيارة، علمًا بأنّ الطائرات تُصاب خلال الحرب عن قصد أو عن غير قصد.  ولم يرتح بالي ويطمئنّ قلبي إلاّ بعد عودة الرجل سالمًا واستقبالي له في مطار الدوحة وكأنما وُلد من جديد، ووُلدتُ معه يومئذ.
المشاورات غير الرسمية 
يتمثّل حلّ قضية ما في الوصول إلى قرار يتبع المحادثاتالرسميّة بين الأطراف المعنيّة ومن لهم علاقة بها. والحقيقة أنّه في الغالب لا يتوصّل الأطراف إلى الحلّ المطلوب أو القرار المرجوّ خلال هذه المحادثات الرسميّة، بل يصحبها توتّر وضيق في الوقت وحرص على تسجيل المواقف من شأنها أن تحول دون التوصّل إلى حلّ وسط.  وأعتقد أنّ الكثير
من الخبراء والدارسين لظاهرة المحادثات الرسميّة يشاطرونني الرأي عندما أقول إنّ الحلول غالبًا ما تأتي عبر المشاورات والاتصالات والوساطات السرّيّة، إذ يتمتّع المفاوض خلالها بحرّيّة أكبر في النقّاش والاتّصال بصاحب القرار ،فلا وجود لخشية من الرأي العامّ ولا مزايدات عليه من الطرف المقابل أو الأطراف المشاركة في المشاورات.
وقد رأيتُ أن أخصص فصلاً في رسالتي للدكتوراه لظاهرة المشاورات وما تعنيه. ولم يكن الأمر سهلاً إذ لم أجد مراجع يُعتمد عليها في هذا الشأن.  لذلك لجأتُ إلى المتابعة الميدانيّة ومراقبة المشاورات كمشارك وشاهد عيان خلال وجودي في هذا المحفل الدولي أي مجلس الأمن،  بل في الأمم المتحدة بصورة عامّة،  أو خلال متابعتي لتأثير المشاورات عبر سيرتي الدبلوماسية.  ولذلك فإنّني اخترتُ في هذا الكتاب الذي هو أقرب إلى السيرة الفكريّة أن أستعرض بعض ما توصّلتُ إليه بخصوص مسألة المشاورات لأنّها نوع من الممارسة السياسيّة ذات العلاقة بالحوار بين الأطرافوالاختلاف بين الثقافات.  ثمّ إنّ تأثير المشاورات في التوصّل إلىحلول لا يقتصر على القضايا السياسيّة بل يتخطاه إلى القضاياالثقافيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وما عداها.
أنماط التشاور
تتّسم المشاورات غير الرسميّة لمجلس الأمن بالمرونة والسرّيّة، وتُعقد الاجتماعات دون جدول أعمال رسميّ ودون رقم للتسجيل وبالطبع دون وهج المتابعة العامّة.  لكن توجد مع ذلك توجيهات إجرائيّة محدّدة،  ويتحمّل في العادة رئيس مجلس الأمن القائم بالعمل مسؤوليّة الدعوة إلى الاجتماع والإعلان عنه واتّخاذ الترتيبات المادّيّة اللازمة له، ويمكن أن يختلف المكان الذي يُعقد فيه الاجتماع.  ومن ناحية الحضور تذكر التقارير أنّ المشاورات الشاملة غير الرسمية لا تبدأ إلا بعد حضور أعضاء المجلس الخمسة عشر،  وفوق ذلك يحضر الأمين العامّ ومعاونوه،  ولم تحدث أي محاولة لاستبعاد حضورهم.  وتضيف التقارير أنّ أعضاء مجلس الأمن يدخلون في كثير من الأحيان في مشاورات ثنائية نظرًا إلى أنّ المشاورات الأضيق يمكن أن تكون أكثر تلقائية وصراحة. وقد تشارك في هذه المفاوضات من ناحية أخرى أطراف ليست أعضاء في المجلس مثل ممثّلي الحركات الإقليميّة وحركات التحرير. أما من ناحية التوقيت،  فيمكن أن تُعقد المشاورات غير الرسميّة قبل اجتماع المجلس لدراسة موضوع معيّن أو بين جلساته أو بعدها أو حتى أثناءها.  وقد يكون من الصعب عمليًّا عقد اجتماعات رسميّةومشاورات غير رسميّة في وقت واحد، وإن كان بعض الخبراء يرونأنّ التمثيل المتزامن في كلّ من الجلسات الرسميّة وغير الرسميّةيمكن أن يسمح بالتوصّل إلى توافق الآراء بصورة أكبر وبطريقةإبداعيّة. ومهما يكن، فعادة ما تتلاءم أساليب التفاوض مع الظروف.
الجدير بالذكر أنّه لا توجد سجلاّت رسميّة للمشاورات غير الرسميّة،  وإن كان شائعًا أنّ أعضاء المجلس يدوّنون ملاحظاتهم بأنفسهم. ونظرًا إلى عدم وجود طريقة مقرّرة لإبلاغ وسائل الإعلام فإنّ بعض المعلومات تصل إليها أحيانًا، وقد يوافق رئيس المجلس ،بناء على تقديره وفي الحدود التي يراها،  على الإجابة على أسئلة الإعلام. وإذا كان رئيس المجلس يستطيع بوجه عامّ أن يذكر ما يفعله المجلس فإنّه لا يستطيع أن يذكر موضوع المناقشة في المشاورات غير الرسميّة. وعلى أي حال فقد يكون من الحكمة أن يدلي الرئيس ببيان رسميّ بشكل ما بشأن المشاورات المعروفة بدلاً من أن يترك ذلك للأطراف المتنازعة أو لخ تقاليد المشاورات
تدعو تقاليد مجلس الأمن ولا سيّما تراث وودرو ويلسون إلى عقد «اتفاقات علنية،  يتوصّل إليها الأعضاء علناً».  وتتعارض المشاورات غير الرسميّة مع هذا المبدأ.  ومع أنّ الضرورات تبيح المحظورات،  إلاّ أنّ المحاذير الأساسيّة تتمثّل في تحويل مجلس الأمن إلى ناد مغلق ترتاده الصفوة من الدول الكبرى فقط، يصلون فيما بينهم إلى اتفاقات عن طريق مشاورات سرّيّة تدور وراء الأبوابالموصدة. وهو ما يعيد إلى الذاكرة أنّ داغ همرشولد، الأمين العامالمغدور الذي كان يعتبر نفسه مدافعًا عن حقوق الدول الصغرى ،كان يخشى أن تؤدّي سرّيّة أعمال مجلس الأمن إلى تأكيد صورته على أنّه ناد مغلق يقتصر دخوله على الدول الكبرى.
كان بريان أوكاهارت من كبار موظّفي الأمم المتّحدة لمدّة طويلة،  وقد أشار إلى سبب إضافي للقلق من المشاورات غير الرسميّة وما يبدو من أنّها تطيل عمليّة التفاوض. فهو يحذّر من أنّ الإجراءات غير الرسميّة تسمح للأطراف المتعنتّة بالتشبّث بمواقفها ،وقد «تزيد من تردّد المجلس في عقد اجتماع رسميّ». وبذلك تُحوّل المجلس من الناحية العمليّة إلى «الهمهمة وراء أبواب مغلقة حول قضايا تمسّ السلم والأمن الدوليَّين». وقد وردت في تقرير الأمين العامّ )الذي وضع مسودّته كورت فالدهايم( بشأن عمل المنظّمة في عام 1982 وقدّمه الأمين العام الجديد خافيير بيريز دي كويلار ،إشارة إلى زيادة اللجوء إلى المشاورات المفيدة،  ولكنهّ حذّر بعد ذلك من أنّ «هذه العمليّة يمكن أن تتحوّل إلى بديل عن العمل من جانب مجلس الأمن أو حتى أن تكون ذريعة لعدم العمل.»
المشاورات في الميزان
رغم المخاوف المحتملة والمحاذير التي تختلف من موقف لآخر،  يرى كلّ من الدبلوماسيّين وموظّفي الأمم المتّحدة بوجه عام أنّ التوسع في استخدام المشاورات غير الرسميّة يُعدّ تطوّرًا إيجابيًّا في آليات عمل المجلس.  وفيما يتعلّق بمزاعم البعض أنتكون المشاورات مسؤولة عن شلل المجلس يردّ آخرون متسائلينكيف يمكن للوفود الوطنيّة أن تصل إلى توافق في الآراء في العلنولا تستطيع أن تصل إليه في اجتماع خاصّ ويضيفون إنّ «الهمهمةوراء أبواب مغلقة»  أفضل وأكثر جدوى من «الصّياح عبر أبوابمفتوحة». ويختتمون اعتراضهم بالقول إنّ التاريخ يُثبت أنّ قرارات مجلس الأمن لا تُؤدّي بالضّرورة إلى اتخاذ إجراء،  أي أنّ بعض القرارات شكليّة فقط تهدف إلى إرضاء الجميع وإن لم يقتنع بها الكلّ لأنّ المشاورات كانت علنيّة وغابت المشاورات غير الرسميّة.
في المقابل،  فإنّ المشاورات غير الرسميّة موضوع محيّر حقًّا وقابل لإساءة الاستغلال من جوانب كثيرة.  وعلى الرّغم من ضآلة البحوث المدقّقة من داخل المؤسّسة حول هذا التطوّر الإجرائيّ، فإنّ موضوع المشاورات غير الرسميّة جدير بدراسة أوثق وأطول أمدًا قبل التوصّل إلى نتائج شاملة وثابتة عن مميّزاته.  ومع ذلك ،ما يزال رأي بريدج ينطوي على جرعة من الرّجاحة: «إذا لم يتمكّن مجلس الأمن من الوصول إلى اتفاق في اجتماع خاصّ، لن تكون هناك جدوى دبلوماسيّة )تمييزًا لها عن الدعاية( في إعلان خلافاته على الملأ. ولن تكون لذلك من نتيجة غير زيادة تمسّك كل طرف بموقفه،  وزيادة تسميم الجوّ،  والإعلان عن عجز المجلس عن التحرّك،  وذلك على الأقل بنفس بلاغة الإعلان عن عدم قدرته على الاجتماع علناً». ويرى جل الدبلوماسيّين أنّ «الرأي السائد هو أنّ عدم التحرّك أفضل من تحرّك لم يُبحث بحثًا جيّدًا». (الكوّاري:  88-93) وخلاصة القول إنّ عملية المشاورات غير الرسميّة في مجلسالأمن تؤدّي دورًا إيجابيًّا وسلبيًّا في الوقت نفسه. فتوصّل الأعضاءالدائمين فيما بينهم إلى توافق في الرأي غدا أكثر احتمالاً حتى لوتعلّق الأمر بقضيّة حسّاسة ومعقّدة تمسّ مصلحة عضو أو أكثر .ولكن من وجهة نظر الأعضاء غير الدائمين في المجلس بصفة عامّة، فإنّ هذه المقدرة المتزايدة على التحرّك في أوقات الأزمات ربّما قد تحقّقت على حساب التضاؤل التدريجيّ للإسهام الجادّ من قبل الأعضاء غير الدائمين.
عملية صنع القرار
إنّ صانعي القرار من الأفراد يواجهون عقبات جمّة تحول دون تحقيق النتائج المثلى أو المنطقيّة،  وتزداد التعقيدات تفاقمًا عندما يكون صانع القرار هيئة تضمّ أطرافًا متعدّدة،  خاصة إذا كانت هذه الهيئات مثل مجلس الأمن الذي يتألّف بدوره من كيانات يمثّل كل منها صانع قرار متعدّد الأطراف .
وفضلاً عن ذلك فإنّ حقّ النقض )الفيتو( الذي يتمتّع به الأعضاء الخمسة الدائمون في المجلس يُضفي مزيدًا من التعقيد على عملية صنع القرار. ومن ثمّ فإنّ اقتضاء تحقيق الاتفاق بين الأعضاء الخمسة الدائمين،  أو على الأقل عدم وجود معارضة من جانبهم،  وقف عائقًا أمام وفاء المجلس بالمسؤوليات غير المسبوقة التي أُنيطت به بمقتضى ميثاق الأمم المتّحدة.
وإذا أردنا التعبير عن ذلك بطريقة دبلوماسيّة،  فإنّنا نقول إنّاستخدام حقّ النقض لم يكن يتّفق دائمًا مع مسؤوليّة مجلس الأمنالخاصّة بحفظ السلم والأمن الدوليَّين وإعادتهما إلى نصابهما. ولاشكّ في أنّ حقّ النقض كان في كثير من الأحيان بالنسبة للأمنالدولي بمثابة «المصهر في صندوق المصاهر»

الذي وقف حائلاً دونتصاعد المواجهات الخطيرة بين الدول الكبرى إلى نقطة الاشتعال .إلاّ أنّ الحقيقة والقراءة التاريخيّة يشيران إلى أنّ حقّ الاعتراض كثيرًا ما يُستخدم كذلك لتحقيق مصالح قوميّة ضيّقة بغضّ النظر عن قدرة المجلس على أن يتّخذ بسرعة الخطوة الحازمة المطلوبة.
لقد أدّى التوتّر الذي طرأ على البيئة السياسيّة العالميّة إلى إحياء آمال مؤسّسي الأمم المتّحدة في أن تحمي القوّة الجماعيّة للمجتمع الدوليّ الطرف الضعيف من المخطّطات الظالمة للطرف القويّ. 
وتظلّ الخشية قائمة من أن يصبح الطرف القويّ في وضع يسمح له بأن يفرض على الضعيف رؤيته الخاصّة للنظام العالميّ «الجديد .»
وسيكون من المفيد في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين أن نذكّر بأنّ الغرض الرئيسي المقرّر للأمم المتّحدة،  قد ورد على هذا النحّو في المادة الأولى )الفقرة 1( من الميثاق:
«حفظ السّلم والأمن الدوليَّين، وتحقيقًا لهذه الغاية تتّخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تُهدّد السّلم وإزالتها ،وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسّلم،  وتتذرّع بالوسائل السلميّة وفقًا لمبادئ العدل والقانون الدوليَّين،  لحلّ المنازعات الدوليّة التي قد تؤدّي إلى الإخلال بالسّلم أو لتسويتها».
وبالنظر إلى الصعوبات التي اعترضت تاريخيًّا الأمم المتّحدة ومجلس الأمن في سبيل تحقيق الغرض المذكور آنفًا، تجدنا نلتفتمرة أخرى إلى الثقافة )والدبلوماسيّة الثقافيّة كأداة لها(  لتُبيّن لنامكمن الداء،  والأمر ليس مستحدثًا في حقيقة الأمر بما أنّ منظمةاليونسكو أصدرت منذ1949   تقريرًا أعدّته لجنة من الخبراء حولا لدراسات المقارنة للحضارات جاء فيه: «إنّ مشكلة التفاهم الدوليّ هي مشكلة علاقة بين الثقافات ،ومن هذه العلاقة يجب أن ينبثق مجتمع جديد قائم على التفاهم والاحترام المتبادل.  وهذا المجتمع يجب أن يأخذ صورة إنسانيّة جديدة، بحيث تتحقق عالميّته من خلال الاعتراف بالقيم المشتركة في شتّى الثقافات.»
وأعتقد أنّه بعد مرور أكثر من ستّة عقود ما يزال هذا المفهوم الممتاز يسطّر خارطة طريق للبشريّة، وإن وجب الإقرار أنّ المجتمع الإنسانيّ قد حقّق منه بعض الشيء منذئذ.
التفاوض والثقافة
من المؤكّد أنّ للمشاورات علاقة وطيدة بالثقافة وغالبًا ما يكون المتحاورون من ثقافات متعدّدة تلعب ثقافة كلّ واحد منهم دورًا في أسلوبه وتواصله. لذلك فإنّ التقارب بين الثقافات يُشكّل عنصرًا أساسيًّا للتقارب في المفاوضات مهما كانت طبيعتها.  وتعكس الترجمة نموذجًا حيًّا للخلفيات الثقافية تعمل على تحقيق الاتّفاق المنشود من اللقاءات والمشاورات والمفاوضات. وهنا تكتسي دقّة التّرجمة وجودتها أهمّيّة بالغة بسبب ما قد ينتج من سوء فهم قديقود بدوره إلى تسميم جوّ المحادثات أو عرقلة الوصول إلى اتفاق.ومن الطرائف التي أذكرها في هذا الصدد أنّ وزير خارجيّتناالسابق الشيخ أحمد بن سيف آل ثاني كان في لقاء مع وزير خارجيّةالاتحاد السوفييتي موضوعه الحرب العراقيّة الإيرانيّة ضمن المساعيالرامية إلى البحث عن حلّ،  وكان المترجم روسيًّا . وفوجئنا على حين غرّة بالمترجم الروسي يقول: «إنّ على العراقيّين والإيرانيّين أن يتبادلوا الأسَرّة» فالتفت الوزير إليّ مبتسمًا: وما دخل الأسِرّة في هذا الشأن؟ لنكتشف طبعًا أنّ المقصود تباد (تبادل الأسَرى )جمع أسير( وليست الأسرّة )جمع سرير
واستطرادًا مع طرائف المترجمين،  أبدَيتُ ذات مرّة إعجابي بالقدرات اللغويّة العربيّة لمترجم روسيّ بارع فقال مبتسمًا:  لا أعرف إلاّ القليل ممّا يعرفه عالمكم الجليل سيبويه، فقد كان يحمل معه في تنقّلاته حمل عشرة من الجمال بينما لو جمعتُ كلّ كتبي فلن يكون معي إلاّ حمل بعير واحد.
ولا يمكن أن نتحدث عن طرائف الترجمة دون أن نقصّ ما جرى للمترجم كورشيلوف عندما كان يُترجم بين جورج بوش الأب وميخائيل غورباتشيف،  ويروي النادرة في كتابه «ترجمة التاريخ».  كانت المحادثات حثيثة بين الطرفَين للوصول إلى اتفاق بخصوص الحدّ من التسلّح، وكان الرئيسان يناقشان تفاصيل تثبّت كلّ طرف من ترسانة الطرف الثاني.  واتّضح تباين في المواقف بخصوص طائرات أيّ طرف ستتولّى مهمة التثبّت. كان الأمريكان يريدون أن تكون طائرات الطرف الذي طلب التثبّت بينما يفضّل الروس أن تكون طائرات الطرف الذي سيجري التثبّت منه.  وقدأساء المترجم كورشيلوف فهم جملة غورباتشيف وترجم:  الطرفالراغب في التثبّت.  استغرب الجميع من هذا التحوّل السريع فيالموقف الروسيّ والتفت الجميع إلى المترجم الذي سارع بإصلاحالهفوة، ويقول في هذا الصدد: «عندئذ أدار كل شخص رأسه لينظر نحوي.  وفي تلك اللحظة وددتُ لو أنّ الأرض ابتلعتني.  وقد قال أحدهم ذات مرّة إنّ الترجمة الجيدة كالهواء، لا أحد يلاحظ وجوده حتّى يتلوّث. لا أحد يلاحظ وجود المترجم ما دام يؤدّي عمله على ما يرام،  ولكنهّ يصبح محطّ الأنظار في الآونة التي يرتكب فيها هفوة».
ويختتم كورشيلوف روايته للحادثة بطرفة أخرى عندما يحكي أنّه توجّه عند نهاية اللقاء إلى جورج بوش الأب ليعتذر عن هفوته فأجابه هذا الأخير: «لا بأس،  لن تكون سببًا في اندلاع الحرب العالميّة الثالثة!»  بينما ردّ غورباتشيف بدوره على اعتذار المترجم قائلاً له: «لا تشغل بالك، لقد أخطأت لأنك عملت، ومن لا يعمل هو الوحيد الذي لا يخطئ.»


 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved