آخبار عاجل

الحلقة السادسة من كتاب "على قدر أهل العزم" لسعادة وزير الدولة حمد الكوارى 

02 - 10 - 2023 9:11 249

حين تدخل أيّ مطار من مطارات العالم، أو حين تتجوّل في أيّ مدينة كبرى من المدن العالميّة قد لا تنتبه إلى أنّ البشر أقرب إلى بعضهم البعض، تشير أسطورة إيكاروس وأبيه الصانع الحاذق ديدالوس،  كما نقلها في صيغتها الأولى أوفيد في الفصل الثامن من «التحوّلات »إلى حلم الإنسان في الانعتاق من قيوده التي تشدّه إلى الأرض.


لقد حدّدنا للتّوّ جانبًا أساسيًّا ممّا نعتقد أنّ الدّبلوماسيّة الثّقافيّة تسعى إلى أن تشارك في تحقيقه وهو «نشر ثقافة السّلم واللاّعنف إذا نظرنا إلى العولمة بصفة مُجرّدة،  دون أحكام مسبقة ،وجدناها ثمرة لتضافر آليات عديدة أساسها الاقتصاد.

 

الحوار بين الثقافات الناّس للناّس من بدوٍ ومن حضر بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدمُ حين تدخل أيّ مطار من مطارات العالم، أو حين تتجوّل في أيّ مدينة كبرى من المدن العالميّة قد لا تنتبه إلى أنّ البشر أقرب إلى بعضهم البعض ممّا نتصوّر رغم الاختلافات الثّقافيّة بينهم وما قد يحملونه من نظرة غير متناسبة مع هذا الدّفق الإنسانيّ. فالثابت في الأحوال جميعا أنّ البشر،  حتى إذا لم نقبل بما في كلمة أخوّة من عمق إنسانيّ يبدو للبعض مثاليًّا، فإنّهم على الأقلّ سيستقلّون طائرة واحدة أو يركبون قطارًا واحدًا أو يزورون حديقة واحدة.


نعم أصبح ركوب القطار ثمّ الطّائرة أمرًا اعتياديًّا ساذجًا لا يكاد يثير الدّهشة أو التّساؤل حول هذا الاختراع العجيب. دعك من هذا المسار المتعرّج المعقّد الذي أوصل الخبرة البشريّة إلى الانعتاق من قيود الجاذبيّة.
تشير أسطورة إيكاروس وأبيه الصانع الحاذق ديدالوس،  كما نقلها في صيغتها الأولى أوفيد في الفصل الثامن من «التحوّلات »إلى حلم الإنسان في الانعتاق من قيوده التي تشدّه إلى الأرض. إنّهاقصّة ممتعة تروي حلم البشريّة بأن تحلّق في السماء ناسيةً الحذروالخطر، محمولةً بشهوة الاكتشاف والانتقال من عالم الأرض إلىمملكة السّماء. فهذا الكائن الذي خُلق ضعيفًا، كما ورد في القرآن الكريم،  لو تعلّقت همّته بما وراء العرش لناله،  على ما ورد
في الأثر. وإذا كان جناحا إيكاروس المصنوعان من الشّمع والرّيش قد ذابا بمجرّد اقترابه من الشمس فإنّ حلم الإنسان المحلّق في الفضاء ظلّ قائمًا إلى أن تمكّن أحفاد ديدالوس،  رمز التقنية التي أراد بها الإنسان السيطرة على الكون،  من تجسيمه.  بيد أنّ الطائرة التي تعنينا إن هي إلاّ وسيلة لتركيز قدرة الإنسان على الترقّي والتسامي بفضل الإرادة القويّة.  فمسار البشريّة علامات مضيئة،  رغم الآلام والتعرّجات والانتكاسات، من ترقّ روحيّ ومادّيّ متواصل. ولسنا نرى الدبلوماسيّة الثقافيّة إلاّ أداة من أدوات التسريع بهذا الانعتاق من حدود الموجود سعيًا إلى المنشود.
ولا شكّ أنّ في جميع الثّقافات أشباهًا ونظائرَ من هذا الحلم الذي نراه اليوم،  بفضل التّطوّر العلميّ والتّكنولوجيّ،  ماثلاً أمام أعيننا، نتمتّع بثماره إلى حدّ نسيان أنّه كان منذ عقود خلت محضَ خيالٍ وأمنياتٍ.
ننسى أيضًا في غمرة تفاصيل حياتنا الحديثة وعاداتنا المُستحكمة أنّنا في تلك الطّائرة، نعيش طقوسًا مختلفة وعالمًا يكاد يكون مغلقًا بعاداته وقواعده وآدابه. هذا العالم الكونيّ الذي يُوحّدنا ويُعبّر عن مشاعرنا الإنسانيّة العميقة وقواعد العيش معًا طيلة الرحلة. كم هي بسيطة هذه الكلمة: رحلة! ولكنّ شروطها واضحة. لسنا في مكان مثقل بخصوصيّاتنا الثّقافيّة وعاداتنا الاجتماعيّة ولُغتنا التي ورثناها وخريطة سيرنا في الطّرقات التي ألفناها ولكنهّا ليست في الآن نفسه مقطوعة تمامًا عن ذلك كلّه.  توازن دقيق يمكّن كلّ واحد مناّ من المحافظة على هويّته الفرديّة والثّقافيّة ولكنهّ يُلزمه،  راضيًا مرضيًّا ،بالقبول بمغامرة تحفظ أمنه وسلامته في ذاك العبور من مطار إلى آخر ومن مدينة إلى أخرى.
العبور!  هذه هي الكلمة السّحريّة الثانية.  في الطّائرة نتعلّم تقنيَات الاستعداد للمخاطر كسقوط الطّائرة لا قدّر الله.  وهو طقس من طقوس الطّائرة قد يبدو لمن سافر كثيرًا أنّه دخل في العادة والشّكليّات،  ولكن ليتذكّر كلّ واحد مناّ أوّل رحلة له على متن طائرة.  ذاك الإحساس الذي قد ينتابنا في غربتنا
الظّرفيّة ،وذاك الاستعداد النفّسي للانضباط واتبّاع قواعد جديدة في التّعامل ولو ظرفيًّا.  كلّ ذلك يُثبت أنّ الإنسان،  بمحموله الرّمزيّ وعاداته السّلوكيّة، الفرديّة والثّقافيّة، يمكنه أن يعبر ذاته وما أَلفِه ليذهب إلى شيء آخر،  فيكتسب ثقافة جديدة يشترك فيها مع الرّكّاب الذين لا يعرفهم  .
إنّه يجد نفسه في وضعيّة تواصل حقيقيّة تحمله على أن يتخلّص من الكثير من السّلبيّات ويتدرّب على انسجام جديد في مجتمع مصغّر غير مجتمعه.  إنّها ديناميّة شبيهة بما قد يعيشه المرء في مجتمعه الحقيقيّ من تنوّع وقدرة على فهم رموز الآخر دون التّفريط في وعيه بذاته.
وتتداول شبكات التواصل الاجتماعيّ لقطة متقنة الصّنعللتّحسيس بالعنصريّة .  دخلت امرأة في منتصف العمر الطّائرةواكتشفت أنّ المقعد الذي أُسند إليها كان بجوار رجل أسود.  كانمنهمكًا على ما يُذكر في مطالعة كتاب.  فعبّرت عن اشمئزازها من الوضع الذي وجدت نفسها فيه اشمئزازًا يكشف بالنظّرة شزرًا إلى مجاورها في الطّائرة وتعابير وجهها، عن موقف عنصريّ. فما كان منها إلاّ أن نادت المضيّفة طالبةً منها أن تُغيّر لها المقعد. استمهلتها المضيّفة لتستشير قائد الطّائرة .
وبعد ثوان خاطبتها قائلة ما أتذكره بمعناه لا بلفظه دون أن تحدّد على ما تقتضيه اللّغة الإنجليزيّة جنس المخاطَب: «معك حقّ إنّه لَأمر مقرف أن نجلس مع أناس متبجّحين لذلك يوجد مقعد شاغر في الأمكنة المخصّصة للناّس الرّاقين». انفرجت أسارير المرأة وافترّ ثغرها عن ابتسامة رضا وهمّت بالذّهاب إلى ذاك المقعد الشّاغر .ولكنّ المضيّفة فاجأتها بأنّ العرض مُوجّه إلى الرّجل الأسود الذي لم ترض السّيدة البيضاء أن تجلس إلى جانبه.
كانت لقطة ذكيّة استُخدمت فيها تقنيّات سينمائيّة ناجعة في التّعبير عن التّبجّح والأفكار السّلبيّة،  ولكنّ أهمّ ما فيها هو هذا القلب للمواقف على نحو مفاجئ للمرأة التي تتبنىّ أفكارًا عنصريّة وللمُشاهد أيضًا.
أثر الفراشة
هكذا إذن تمثّل الطّائرة استعارة عن عالم مصغّر يكشف جوانب كثيرة ممّا نعرفه في عالمنا الأكبر. وتاريخ البشريّة يقوم شاهدًا على أنّنا في رحلة مستمرّة من مطار إلى آخر نجد فيها أنفسنا نعايش التّنوّع في الأديان والأعراق والألوان والأجناس... والأفكار كذلك.
علاوة على هذا التّنوّع بين الجماعات يوجد تنوّع الهويّات الفرديّة في عالم الحداثة الذي أصبح قائمًا على الفرد واختياراته .
فأضحى التّنوّع مركّبًا يستدعي قدرات ومهارات لدى الأفراد والجماعات بها يتعلّمون احترام الآخر على نحو مستمرّ بما ييسّر لهم إضفاء الكثير من النسّبيّة على ما ورثوه من قيم وعادات ورموز وتقاليد وتصوّرات إلى الإنسان والإله والكون. فهم محكومون في ذلك بإيجاد التّوازن الدّقيق بين تفتّح شخصيّتهم والانسجام مع الغير.  فلا سلم ولا تفاهم في عالمنا المُعَولم بثقافاته المتنوّعة إلاّ بتوفّر هذا الاستعداد أوّلاً وإتقان مهارات التّواصل العابر للثّقافات ثانيًا.
ولستُ أضيف جديدًا حين أؤكّد أنّ شعوب عالمنا اليوم بمثابة أفواج الناّس الذين يستقلّون طائرة واحدة. ورفرفة فراشة في مشارق الأرض يمكن أن تساهم في زلزال في مغاربه والعكس بالعكس .و«أثر الفراشة» هذا يُحدث في دنيا الثّقافات في الكون آثارًا عديدة ما دامت سبل التّواصل متعدّدة أكثر من ذي قبل.  فأيّ ثقافة اليوم يمكنها أن تدّعي الصّفاء والنقّاء؟
لا أتحدّث هنا عن الثّقافات الكبرى فحسب كالثّقافة الهنديّة 
أو الصّينيّة أو العربيّة أو الغربيّة بل أتحدّث كذلك بالخصوص عنالثّقافات التي تميّز حتى المجتمعات الصّغيرة والجماعات المنعزلةفي الأماكن الجغرافيّة الناّئية على وجه البسيطة.
ولئن كان تعدّد الثّقافات وثراؤها وتنوّعها من الحقائق التي لا تحتاج إلى جهد لإثباتها إذ هي تكاد تُلمَس لمسًا، فإنّ إبرازها وتثمينها ودعم الاحترام المتبادل بينها ليس بديهيًّا ولا حاصلاً بالضّرورة .والأعسر من هذا وذاك هو تنمية الشّعور الإنسانيّ العميق بالانتماء إلى المشترك الإنسانيّ في تعدّده وتنوّعه. وفي ذلك، كما هو بيّن في برنامج اليونسكو المسمّى «العقد الدّولي لثقافة السّلام واللاّعنف من أجل أطفال العالم»  يكمن الرّهان الأكبر.  وهو رهان لحماية الطّائرة،  هذه الإنسانيّة المجنحّة في سماء ملبّدة بالغيوم والزّوابع والارتدادات،  وحماية ركّابها أيضًا حتى يصلوا إلى برّ الأمان في رحلة مريحة ممتعة.
لقد حدّدنا للتّوّ جانبًا أساسيًّا ممّا نعتقد أنّ الدّبلوماسيّة الثّقافيّة تسعى إلى أن تشارك في تحقيقه وهو «نشر ثقافة السّلم واللاّعنف .»ومن المداخل إلى ذلك،  ولعلّه أهمّها،  الحوار بين الثّقافات وما يقتضيه من شروط وممهّدات أو أدوات. فالمطار الذي انطلقت منه الطّائرة هو مطار التّنوّع الثّقافي والمطار الذي نرغب في الوصول إليه هو مطار المواطنة ما بين الثّقافيّة التي نصل إليها من بوّابة الحوار بين الثّقافات.
في التّنوّع الثقافيّ والعولمة
إذا نظرنا إلى العولمة بصفة مُجرّدة،  دون أحكام مسبقة ،وجدناها ثمرة لتضافر آليات عديدة أساسها الاقتصاد.  وقد أدّت إلى ترابط العالم ترابطًا شبيهًا بما أدّت إليه الإنترنت من إحكام الصِّلات، افتراضيًّا وواقعيًّا، بين البشر. والمقارنة هنا ليست جزافًا .
فالإنترنت نفسها، إذا نظرنا في تاريخها، قد تكون جزءًا من العولمة أو مظهرًا من مظاهرها.  ولكنّ وجه المقارنة الأساسيّ أنّ عالم الاتّصالات تتحكّم فيه قوى احتكاريّة معروفة ويحمل مخاطر عديدة ترافق ما نراه من إيجابيّات.  وهذا شأن العولمة أيضًا .
لذلك وضع مفهوم الحدود بين الثّقافات،  كما بين الاقتصادات الوطنيّة ،موضع تشكيك. وهو نتيجة إذا ما تأمّلناها ذات أبعاد خطيرة.
لنتذكّر بادئ الأمر أنّ هذا التّواصل المكثّف بين الثّقافات بقدر 
ما فتح آفاقًا واسعة فإنّه ترك الثّقافات المختلفة غير المسنودة بالتّطوّرالعلميّ والتّكنولوجيّ والاقتصاديّ في العراء.  لقد أضحت أكثرهشاشة.  لذلك بدت العولمة مُهدِّدة للثّقافات «الصّغيرة»  ومن ثمَّ للهويّات الثّقافيّة التي عجزت عن التّطوّر الذّاتي بوصل ماضيها وما فيه من موارد ثريّة بحاضر إبداعيّ يستلهم ما شهدته البشريّة من تطوّر علميّ وتكنولوجيّ. بدت هذه الثّقافات كبعض الأصناف الحيوانيّة المهدّدة بالانقراض أو كبعض التّحف التي يُخشى عليها في المتاحف من التّلف وهي في أحسن الأحوال كالآثار والشّواهد الناّدرة التي لم تجد العناية الكافية ولا التّمويل اللاّزم لإبرازها وتثمينها .
ولمّا كانت الشّعوب،  إذا ما أحسّت بالخطر،  تعضّ بالنوّاجذ على مكوّنات هويّتها،  فإنّها في أثناء ذلك،  قد تصبح شرسة في الدّفاع عن رموزها لتصبح تلك الهويّات كما قال أمين معلوف «هويّات قاتلة»43 كأنّها تخاطب العولمة بمنطق ردّ الفعل.  وهذا ما تشهد عليه،  بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة،  وضعيّة يوغسلافيا سابقًا وحتى وضعيّة بلدان عريقة في الحضارة مثل الهند.
إنّ هذا الواقع الأليم لن يوقف التيّار الجارف بكلّ إيجابيّاته ،نقصد تيّار الرّبط بين الثّقافات ومدّ جسور التّواصل بينها.  لذلك فهو يتطلّب إدارة لهذا التّنوّع في اتّجاه البحث عن السّبل الكفيلة ببناء مستقبل مشترك بينها يحمي كلّ مكوّن منها ويُدرجه في ديناميّة تنمويّة مستدامة.  ولا مفرّ لأيّ دبلوماسيّة ثقافيّة جادّة أن تنخرط 
في هذا الحلم الإنسانيّ المشترك.  فللبشريّة من الأدوات والقيمالمشتركة الحاصلة بعدُ ما يمهّد لهذه المهمّة الدّبلوماسيّة السّامية .
فهي في جوهرها عمل تفاوضيّ من أجل بناء مواقف وتصوّرات وتفاهمات مشتركة.  إنّها بدورها عمل ثقافيّ بامتياز يقوم على كفايات تواصليّة ومهارات في الحجاج عالية.
والواقع أنّ معالجة مسألة التّنوّع والعولمة من زاوية الدّبلوماسيّة الثّقافيّة يستند إلى منظومة حقوقيّة دوليّة ثريّة تيسّره وتجعل الاتّفاق في شأن العديد من المسائل ممكناً.
ولا نريد أن نثقل على القارئ بالأدبيّات في هذا الباب بيد أنّنا سنقدّم إشارات وجيزة من هذا الذي نقصده بالمنظومة الحقوقيّة الدّوليّة التي تُوجّه بالضّرورة الدّبلوماسيّة الثّقافيّة،  على المستوى المؤسّسي على أقلّ تقدير.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان منطلق جيّد،  بحكم مكانته الاعتباريّة وقوّته القانونيّة الدّوليّة والأخلاقيّة،  لتأسيس الدّبلوماسيّة الثّقافيّة في مجال الحوار بين الثّقافات.  وليس من باب الصّدفة أن يكون المدخل إلى تحقيق التّوازن بين شخصيّة الفرد الثّقافيّة وتعزيز التّفاهم والتّسامح بين الشّعوب هو التّربية. فقد ورد في المادّة 62، الفقرة الثانية من الإعلان ما يلي: «يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصيّة الإنسان إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحرّيّات الأساسيّة وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصريّة أو الدينيّة، وإلى زيادة مجهود الأمم المتّحدة لحفظ السلام.»
نلاحظ أنّ هذه الفقرة تضع المثل الأعلى وتفصّل أهمّ مكوّناتهولكنهّا تتّخذ من التّربية أداة لبلوغه.  وإذا ترجمنا هذه المبادئالكبرى إلى إجراءات يمكن التّفاوض في شأنها داخليًّا وبين الدّول فإنّ الورشة التي ستفتح كبيرة جدًّا تحتاج إلى جهود وتصوّرات واستراتيجيّات متنوّعة بقدر حاجتها إلى العمل على ضرب من التّضامن الدّولي في المجال التّربويّ بكلّ تعقيداته خصوصًا في عالمنا اليوم.
ونجد في لائحة حقوق الإنسان عددًا من المبادئ المتّصلة بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة والحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثّقافيّة تدعّم هذا التّوجّه الدّوليّ في إطار ترابط الحقوق وعدم قابليّتها للتّجزئة والتّصرّف فيها.  يكفي أن نشير إلى حقوق السّكّان الأصليّين وحقوق الجماعات وحرّية التّعبير الدّيني ...إلخ .
إنّ هذا التّوازن بين ما في التّنوّع الثّقافي من خصوصيّة وما في وثائق حقوق الإنسان من طابع كونيّ هو الموجّه لكلّ تفاوض يجري في نطاق الدّبلوماسيّة الثّقافيّة على نحو يعزّز التّنوّع في صلته بحقوق الإنسان والعكس بالعكس. فبينهما تفاعل وتحاور مستمرّان ليكون الحوار بين الثّقافات مدخلاً حقيقيًّا لبناء الممكن الإنسانيّ المشترك .
فإذا كان ترسيخ قيم اللاّعنف والتّسامح والاحترام المتبادل والحوار من صلب ثقافة السّلام المنشودة،  فإنّ من شأن احترام معايير حقوق الإنسان، وتوفّر وسط تسوده الحرّيات الفرديّة والعامّة ،أن يمثّل إطارًا لازدهار أيّ حوار ثقافي. فكيف لمن لا يحترم حقوق الآخرين ولا تُحْتَرَم حقوقُه محلّيًّا أنْ يكون قادرًا على مدّ اليد للآخرالمختلف ؟ وكيف لمن لم يكن الحوار المدني السّلميّ وسيلته لفضّ الإشكالات الاجتماعيّة والثّقافيّة أن يكون مزوّدًا بما يتطلّبه الحوار الثّقافي من كفاءات ومهارات؟
إنّ أيّ ثقافة هي خلاصة حوار داخليّ ومسار تفاوضيّ أدّى إلى تشكّلها على هذه الصّورة أو تلك.  والثّقافة العربيّة مثال جيّد من هذه الناّحية.  فهذه الثّقافة العظيمة تشكّلت تاريخيًّا ضمن مسارات وإمكانات أفرزت ما أسماه البعض بـ«العقل العربي.» وبقطع النظّر عمّا يمكن أن يُنقَد به هذا المفهوم45 وعن النتّائج التي توصّل إليها صاحبه،  فالمهمّ هو الفكرة العامّة التي تفيد أنّ هذه الثقافة كانت وليدة تفاوض بين تيّارات فكريّة عديدة أسهمت في صنعها. فواقع الثّقافة العربيّة الثّريّ المتنوّع الذي أعطى للعالم، في فترة ازدهارها ،خبرات معرفيّة وتقنيّة وفلسفيّة وأدبيّة بديعة،لم يخلُ من تفاعلات ثقافيّة ساهمت في تشييد صرح هذه الثّقافة وسيادتها في أجزاء واسعة من العالم،  في آسيا وإفريقيا وخصوصًا في البحر الأبيض المتوسّط، وتفاوضت هذه الثقافة مع الثقافات الأخرى التي اتّصلت بها على مرّ التاريخ.
فقد عرف العرب منتجات ثقافات عظيمة كالفارسيّة والهنديّة واليونانيّة.  بل تجاوزوا هذا المحيط القريب،  بمفردات الجغرافيا ،إلى ثقافات ترتبط بأماكن أبعد.  وتشهد كتب الرّحلات على هذا  التوجّه نحو الآخر. ولكنّ العربَ نقلوا إلى الآخرين معلومات عنثقافتهم وفسّروا ثقافة الآخر وعاداته.  وتمثّل كتب الرّحّالة العربمخزونًا ثرِيًّا من المعطيات التي تشهد على ما نقول .
أفلم يكن الرّحّالة دبلوماسيّين ثقافيّين يتفاوضون على طريقتهم وبما لديهم من وسائل مع الثّقافات الأخرى؟
لقد مثّلت هذه الكتابات آلية من آليّات الحوار إذ ساعد عليها احترام نبيّ الإسلام عليه الصّلاة والسّلام،  للأديان السّابقة.  فهو مواصلة لها في نظام يخاطب به الخالق عباده.  فهذا الاحترام ،﴿لَكُمْ دِينكُمْ وَليَ دِينِ﴾.  )الكافرون،  الآية 6(  مع ما يقتضيه من وعي بالذّات هو عنوان التّواضع الثّقافيّ.  كما أنّ اندراج رسالة الإسلام في خطّ الأديان التّوحيديّة﴿ إنّ هذا لفي الصُّحُف الأولى صُحُف إبراهيم وموسى.﴾ (الأعلى،  الآية 18(  هو الّذي سمح برؤية الظّاهرة الدّينيّة في تطوّرها التّاريخيّ من وجهات نظر مختلفة تجلّت في كتب الجدل الدّيني والقدرة على إقامة علاقات معرفيّة وروحيّة عابرة لكلّ دين على حدة.  وليس وراء هذا،  في تقديرنا ،إلاّ تجسيد للآية الكريمة ﴿إنَا خَلَقْناَكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾  )الحجرات، الآية 7(. وهل ثمّة مفهوم آخر من مفاهيم العيش المشترك والصّداقة بين الشّعوب والدّعوة إلى التّفاهم والتّسامح لحفظ السلام لا تعبّر عنه هذه الآية الكريمة؟
إنّ الدّبلوماسيّة الثّقافيّة تحتاج إلى مثل هذه النمّاذج الأصيلة المتجذّرة في تاريخ العرب وغير ذلك ممّا يوجد لدى مختلف الثّقافات والشّعوب من حكمة لتكون معالم في الطّريق يُهْتدى بها ولتقوم شاهدًا ودليلاً على أنّ لنا جميعًا اليوم رصيدًا نبنيعليه،  حتى إن تغيّرت الاستراتيجيّات وتحسّنت وسائل التّفاوض ومستنداته ومراجعه الفكريّة بفضل وجود منظّمة الأمم المتّحدة والمنظّمات المتفرّعة عنها.  ففكرة الدّبلوماسيّة الثّقافيّة من جهة الحوار بين الثّقافات أصبحت تستند إلى قاعدة مؤسّسيّة مهمّة

على رأسها اليونسكو. وهذا الطّابع المؤسّسي ضروريّ لنجاح التّفاوض دوليًّا حول محتوى الحوار.  وهو ما كان ينقص ما اعتبرناه تاريخا للدّبلوماسيّة الثّقافيّة والحوار بين الثّقافات للوصول إلى المواطنة الكونيّة.
ما يهمّنا التّأكيد عليه هو أنّ الإرث الحقوقيّ المشترك والمتمثّل في منظومة حقوق الإنسان بطابعها الكونيّ هو المهاد الأخلاقيّ والقانونيّ الذي يمكن أن تنبني عليه الدّبلوماسيّة الثّقافيّة لتمتين الموقف الكونيّ.  ولسنا نتصوّر،  إلى حدّ الآن،  مرجعيّة أقوى من ذلك،  ولا لغة في الحوار بين الدّول والثّقافات غير لغة حقوق الإنسان . وبهذا تكون الدّبلوماسيّة الثّقافيّة أداة كذلك، وإن بطريقة غير مباشرة،  لتعزيز حقوق الإنسان والإسهام في تحقيق السّلم وتنمية الرّصيد الإنسانيّ المشترك .
الهويّات الثّقافيّة والمواطنة الكونيّة
ليس الرّهان اليوم مقتصرًا على الحفاظ  على المميّزات الرّوحيّة والمادّية للجماعات الثّقافيّة سواء من ناحية فنونها وآدابها أو من جهة قيمها وتقاليدها وأنماط عيشها على أهمّية ذلك ومشروعيّته .غير أنّنا نعاين في جميع ثقافات المعمورة واقعًا آخر.  فالهويّاتالثقافيّة أضحت في عالمنا اليوم تشهد تغيّرات داخليّة بتأثيراتخارجيّة قد لا تدرك بالسّرعة المطلوبة .
فإذا أخذنا التّحوّلات الثّقافيّة في ما يتعلّق بالمرأة والأدوار الاجتماعيّة للرّجال والنسّاء مثلاً وجدنا أنّ جميع الثّقافات أصبحت تشهد تبدّلاً في منظومة القيم. ونقصد بذلك منظومة القيم المتّصلة بالنوّع الاجتماعيّ.  وهو تحوّل يعود إلى دخول مفاهيم جديدة وانتشار صور مختلفة للمرأة في وسائل الاتّصال كما يعود إلى دخول المرأة نفسها إلى فضاءات لم تكن تقليديًّا من الفضاءات المفتوحة لها.  فيكفي أنْ تدخل الفتاة الفضاء المدرسيّ حتى تكرّ مسبحة القيم الثّقافيّة،  وتتبدّل ببطء نظرة المجتمع إليها ومن ثمَّ تتغيّر القيم التي تسندها هذه الثّقافة أو تلك إليها.  وهذه الملاحظة خالية من أيّ حكم قيميّ.  فلا يعني ذلك أنّ الوضع القديم في المجتمعات التّقليديّة أفضل ولا أنّ الوضع الجديد في المجتمعات الحديثة أسوأ،  كما تشير إلى ذلك آمال القرامي.46 ولكن ما يعنينا من مثال المرأة والقيم الثّقافيّة،  بما في ذلك التّقاليد ونظام القيم والمعتقدات حول النسّاء، هو أنّ الهويّة الثّقافيّة تكتسب بذلك طابعًا ديناميًّا .
لقد أصبحت المساواة بين الرّجال والنسّاء أفقًا ثقافيًّا كونيًّا مشتركًا توضع له السّياسات والبرامج باسم التّمكين للمرأة في مختلف مجالات الحياة الثّقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة
 



شبكة Gulf 24 منصة إعلامية متميزة تغطى أخبار دول مجلس التعاون الخليجي والوطن العربي والعالم تضم بين صفحاتها الرقمية وأبوابها المتنوعة كل ما تحتاجه لتصبح قريباً من ميدان الحدث حيث نوافيك على مدار الساعة بالخبر والتحليل ونسعى أن نصبح نافذتك إلاخبارية التى تمنحك رؤية راصدة تجعل العالم بين يديك ومهما كانت افكارك واهتماماتك. سواء في حقل السياسية، الاقتصاد، الثقافة

جميع الحقوق محفوظه لشبكه Gulf 24 الاخبارية

Gulf 24 © Copyright 2018, All Rights Reserved