لا يكتفي الضابط فيكتور جاباي، رئيس القسم السياسي بهيئة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، بقراءة خطابات الرئيس السادات وتحليلها، بل كثيرًا ما استغرق في قراءة تفاصيل ملامح وجهه الأسمر المنحوت من طمي النيل عبر الصورة التي علقها على يساره منذ تولى منصبه، عَلَّه يسمع إجابة لسؤاله. التنبؤ بردود أفعال رئيس مُحنك سياسيًا وفهم مدلولات كلماته أمرٌ بالغ الصعوبة. ما يثير قلق جاباي إدراكه أنه أمام رجل لا يتنازل عن شبر من أرضه.
تنبئه حواسه الاستخباراتية أن ما ترسله طائرات الاستطلاع من صور للقوات المصرية على الضفة الغربية لقناة السويس، خلال الأيام الأولي من أكتوبر 1973، مختلف عن سابقاتها؛ (هذه ليست تدريبات) قال في نفسه، ثم أردف بصوت سمعته زميلته في المكتب (إنها استعدادات حرب).
يرفض إيلي زاعيرا، رئيس هيئة الاستخبارات، استنتاجات جاباي، بل وعلق متهكمًا (إن تصور عبور المصريين للقناة لا يعدو كونه نكتة تنتهي بإبادتهم).
منذ حرب يونيو 1967، انطبعت في ذهن زاعيرا ثوابت فارقت الحقيقة عن قدرات القتال والتسليح للجيشين المصري والسوري. عاش أسير انطباعاته، فرفض رفضًا تامًا تصديق أنها نُذُرُ حرب، بل ووجه لفيكتور لومًا قاسيًا جراء إقدامه على إرسال تقارير لوزارة الدفاع توصي برفع درجات الاستعداد أو التنويه باحتمال نشوب حرب.
أُهملت كل التحذيرات ومضت الساعات سريعة حتى صَمَ دوي صافرات الإنذار آذان إسرائيل مُعلنًا اندلاع الحرب. أخيرًا اكتشف زاعيرا أنه على خطأ، وأن بلدًا بأكمله دفع ثمن تصورات ذهنية خاطئة سيطرت على تفكيره وقرارته.
كان ذلك ملخص الفيلم الإسرائيلي (أبواق الصمت)، والذي تدور أحداثه في الأيام الست السابقة لحرب أكتوبر 1973.
ما حدث مع زاعيرا عام 1973 من عمى إنكار الواقع على حساب الإيمان بصورة ذهنية خادعة يتكرر اليوم مع فارق بسيط، أنه عن عمد، ليس في إسرائيل وحدها بل وفي غرب يرى في كل عربي مشروع إرهابي. إن حدثته عن الأرض المغتصبة سألك عن المستوطنات المستباحة، وإن عرضت عليه صور الضحايا المدنيين نشر تسجيلات كاميرات حماس دون تعليق، والأعداد لا تهم.
حملُ القتلى الإسرائيليين جنسيات فرنسية وإنجليزية وألمانية وأمريكية، أعطى للقادة الأوربيين مبرر الإعلان عن مواقفهم دون مساحيق سياسية تُجمل تصريحاتهم.
هل كانت غزوة حماس قفزة في الظلام. ربما ألهبت كفوفًا وشفت صدورًا. لكنها ما لبثت أن أسالت أنهار الدموع؛ الدموع على الضحايا والمصابين، الدموع على الأحياء السكنية المسحوقة عن آخرها لا فرق فيها بين حجر ولحم، ودموع العجز العربي.
ربما كان نتنياهو المستفيد الأول من تلك المأساة، إذ منحته قبلة الحياة السياسية في وقت كان خِناق السجن يضيق حول رقبته بفعل اتهامات فساد، ومنحته وقتًا إضافيًا، وحشدت الفرقاء السياسيين تحت رئاسته، فضلاً عن فرصة كتابة الفصل الأخير في كتاب التاريخ الصهيوني المنقوع في الدم العربي متقدمًا عن كل من سبقوه بأنه الأعلى قتلاً والأقوى تدميرًا، خجل كل قادة اسرائيل السابقين؛ بدت مذابح من قبيل اللد، ودير ياسين، ورفح وخان يونس، مجرد فروق أرقام في احصاءات نتنياهو الجديدة.
ويتبقى، ما الذي ننتظره. بحسب القواعد عادةً تنتهي الحرب بالجلوس على مائدة التفاوض، اختلاف أوراق اللعب في أيدي اللاعبين يؤكد أنها مباراة غير متكافئة، فضلاً عن عدم حيادية الحكم الواقع تحت تأثير صورة ذهنية لا تمت للواقع بصلة، خلال خمسين عامًا تغيرت الخريطة وخرج النفط من المعادلة وتحولت أبواق الإنذار إلى (أبواق صمت) تتابع السير نحو الهاوية.