ثمة مقولة للراحل الدكتور يحيى الرخاوي، الأديب وأستاذ الطب النفسي، ذكرها بأسلوبه الشيق وروحه المرحة في معرض حوار تليفزيوني، (لما تلاقي نفسك فجأة بتكلم الدولاب.. ما تقلقش. لكن يا حلو أول ما تلاقي الدولاب بيرد عليك.. تاخد نفسك وتيجي تكشف عندي).
تذكرت تلك المقولة في المقارنة بين برامج حشو الوقت والمعروفة إعلاميًا "برامج حوارية Talk Show" وبعض من حلقات برنامج "بدون رقابة Uncensored" للمذيع البريطاني بيرس مورجان مع العديد من الشخصيات على خلفية أحداث حرب فلسطين.
لم أُخف دهشتي عندما شاهدت للرجل لقاءًا سابقًا مع باسم يوسف منذ أكثر من عام، تحدث فيه ببساطة وتلقائية ودون مواربة عن غيرته من تفوق باسم عليه من حيث عدد المتابعين على منصة تويتر (إكس حاليًا)، ثم ساخرًا من سذاجته عندما حظر حسابه على ذات المنصة، وبنفس روح الود والدعابة تفاعل ضيفه وتحدث عن صدمته عندما أعلن بيرس تأييده لاقتحام اعضاء الحزب الجمهوري الأمريكي مبنى الكابيتول (الكونجرس) في يناير 2020، اعتراضًا على نتائج لانتخابات الرئاسية وفوز بايدن. اختلفا واتفقا، وربح المشاهدون فِكرًا.
الشيء ذاته فعله بيرس مع ناشط يوتيوب "You tuber" محمد حجاب، بريطاني من أصول مصرية، عندما استهل حديثه معه بمقطع يشكك فيه حجاب في جرأة بيرس على استضافته وسماع رأيه، لكن الرجل فعلها وعقب بعد انتهاء المشهد وبصوت عال (ها أنذا أدعوك !!)، تصادما واتفقا، وربح المشاهدون أيضًا.
يتفادى الكثير من مقدمي البرامج الاصطدام بالضيوف المشاغبين وذوي الآراء المثيرة للجدل، بينما يبحث عنهم بيرس. نموذجان متباينان؛ الأول يكتفي بالقراءة من (سكريبت) الإعداد. يلقي السؤال تلو السؤال دون ربط مع رؤية الضيف وردوده مستعينًا بقواميس الحشو البلاغي، بينما يعتمد النموذج الثاني على مذيع ذي ثقافة عميقة مُلمٌ بجوانب المشهد، والمؤثرات المباشرة وغير المباشرة، مع امتلاك رؤية تمثل قاعدة للحوار.
تتسع كثير من الشاشات لعرض برامج أقرب لمراسم صلوات جنائزية، يقدم فيها المذيع عرضًا مسرحيًا لنصوص تهبط عليه من سماوات الهيمنة على أكسجين نوافذ الإعلام، فيردد الضيوف على صدى وقع ارتطام الكلمات النحاسية المجوفة، ومن بعدهم المشاهدون، (آمين.. آمين)، والنتيجة دفن كل ما له علاقة بالقضية محل الحلقة تحت ركام الرغي وفضفضة المصاطب في جلسات الشاي بعد صلاة العشاء في القرية البعيدة.
حشو يؤدي إلى جفاف معلوماتي وتسطيح فكري، يُفرِخ ببغاوات بألوان مبهرة تعتاد العيش والإقامة داخل أقفاص ملونة، غايتها حفنة قرطم والتحليق لبضعة سنتيمترات جاهلة بما في الغابة من أشجار وارفة وسماوات مفتوحة وكفاح متصل للبقاء والإفلات من بندقية الصياد، (تغدو خماصًا وتعود بطانا).
حشو يرسخ الرأي الواحد الأحد، يقول نزار قباني في قصيدته "السيرة الذاتية لسياف عربي"، (حاذروا أن تقرؤوا أيَّ كتابٍ.. فأنا أقرأُ عنكمْ/ حاذروا أن تكتبوا أيَّ خطابٍ.. فأنا أكتبُ عنكمْ/ حاذروا أن تسمعوا فيروزَ بالسرِّ.. فإنّي بنواياكمْ عليمْ). إعلام يعيش في قمقم متوعدًا كل من تسول له نفسه بتأمل السماوات بالويل والثبور وعظائم الأمور.
الخطر كل الخطر، أن ينكفئ الإعلام على نفسه ويُصر على غلق باب الحارة مكتفيًا بالنظر في المرآة على مدار الساعة وعقد جلسات مطولة يتحاور فيها مع صورته المعكوسة في المرآة، ظنًا منه أن تَغيُر ملابس الحضور هو المقصود باختلاف وجهات النظر، وأن عرض الحقائق محصور في بث مباشر لكاميرا ثابتة توقع المشاهد في فخ التعود، تلك أعراض تستدعي الإسراع بتنفيذ نصيحة الدكتور الرخاوي، نحو سرعة التوجه إلى طبيب نفسي. حفظ الله الوطن.