ما زلت أرى أن نزار قباني (1923 – 1998) السياسي أعمق فكرًا وأرقى شاعرية عن نظيره العاطفي الملقب "شاعر المرأة". توقفت أقلام النقاد وعيون القراء أمام تضاريس حواء وتجاهلت جغرافيا الوطن. حلموا ببنت السلطان، وسافروا مع شعرها الغجري في كل الدنيا. تسلقوا نخلاتها، وصعدوا تلالها، وهبطوا سهولها، وسبحوا في بحارها.
يقول نزار قباني في قصيدة "بكيت حتى انتهت الدموع"، (بكيت.. حتى انتهت الدموع/ صليت.. حتى ذابت الشموع/ ركعت.. حتى ملّني الركوع/ سألت عن محمد، فيكِ وعن يسوع/ يا قُدسُ، يا مدينة تفوح أنبياء/ يا أقصر الدروبِ بين الأرضِ والسماء..). ولا تعليق.
وغنت له سيدة الشرق عام 1969 قصيدة "أصبح عندي الآن بندقية"، والتي لا تزال تحتفظ بصلاحية النشر بعد خمس وسبعين عامًا من النكبة (1948)، (.. عشرين عاماً وأنا أبحث عن أرضٍ وعن هوية/ أبحث عن بيتي الذي هناك/ عن وطني المحاط بالأسلاك/ أبحث عن طفولتي/ وعن رفاق حارتي/ عن كتبي/ عن صوري/ عن كل ركن دافئٍ/ وكل مزهرية.. ).
في روايته "رأيت رام الله"، يسترجع الشاعر مُريد البرغوثي (1944 – 2021) وجوه عائلته، وأصدقائه، وجيرانه، ووجوه أخرى كانت تعبر الشارع دون أدنى اهتمام، تحولت في الغربة إلى أمنية يشتاق إليها. سقطت المدينة في يد الاحتلال بعد نكسة 1967، لتصبح طيفاً في الخيال وسيخًا محميًا يكوي القلب العربي صباح مساء، حتى بعد نقل الحكم فيها للسلطة الفلسطينية عام 1994، تنفيذًا لاتفاقية أوسلو 1993، وقف الشرطي الفلسطيني مجردًا من أية صلاحيات. بعد نحو ثلاثين عاماً من الغربة، اُتيح لـمُريد زيارة رام الله، فكتب روايته.
في المقابل، وفي ذات العام الذي غنت فيه أم كلثوم قصيدة نزار، نشر غسان كنفاني (1936 – 1972) روايته "عائد إلى حيفا". وغسان حين يكتب لا يستخدم الورقة ولا القلم، يستل خنجرًا مسنونًا من خاصرته ويشرع ينقش أحزانه على لحم الوطن.
مؤلم غسان وصادم. يزور الزوجان العربيان مدينتهما القديمة، حيفا، بعد نحو عشرين عامًا من احتلال اليهود لها، عادا أملاً في العثور على ابنهما (خلدون)، الذي فقداه تحت وطأة القصف والقتل للمدينة المستباحة. يطرقان باب بيتهما القديم. تفتح سيدة مسنة عرفتهما من الصور المعلقة على الجدران حين دخلت البيت أول مرة منذ عشرين عامًا، فتدعوهما للدخول. أحسا أن أثاث البيت يمد كفوفه ويسلم عليهما. وأخيرًا جاء خلدون، سلم على أمه بالتبني ثم أنكر أبويه، ليعودا مقهورين تنزف عيونهما على الشاب الواقف مرتديًا زي جيش الدفاع. ضاع خلدون. ضاع الرمز. وبقي الأمل ما بقيت أشجار الزيتون.
للزيتون دلالاته الخاصة. يدوم الخير ما دام الزيتون، ويدوم البقاء ما سافرت جذور أشجاره في حنايا الأرض تخبئ حكايات الوطن، توشوش للطين بأسرارها، فيبتسمان قليلاً، ويغرقان في الدموع كثيرًا. صعب على الفلسطيني أن يرى أشجاره تُقتلع من أرضه، أو تجف جذوعها فتذوى وتموت. يقول مُريد (زيت الزيتون للفلسطيني هو هدية المسافر.. اطمئنان العروس.. مكافأة الخريف.. ثروة العائلة عبر القرون..).
ماذا بقى بعد كل هذا العمر لمريد وغسان ونزار.. خطوط بالطباشير الأبيض ترسم خرائطنا المبتورة على الجدران المسروقة كل صباح، ثم يغافلنا المطر ويمسحها في المساء.
هل تحقق الانتصار، هل بتنا على مرمى حجر من فلسطين، أم بَعُدنا حجرًا آخر، لدينا ألف ألف إجابة..
قال نزار قباني في قصيدته هوامش على دفتر النكسة (كلفنا ارتجالنا خمسين ألف خيمةٍ جديدة..)، فعقبت (بعد ما انتهت الدموع) صارت ملايين يا سيدي. حفظ الله الوطن.