تشرفت بتلقي عدة تعقيبات على مقال الأسبوع الماضي (الغرب والصين .. ولا يزال الدرس مستمرًا)، جاء في إحداها –مع بعض التصرف- (ما يحدث الآن مع الصين حدث من قبل مع دخول اليابان إلى السوق العالمي، حيث تمكن الغرب من استيعابها داخل منظومته، إلا أن الصين بحجمها يصعب ابتلاعها كونها تمثل حالة إحلال لا دمج، وعليه لم تُضم لمجموعة السبع الكبار G7).
يرتبط الاقتصاد الصيني بنظيره العالمي بعلاقة طردية، فانكماشه خلال العامين الماضيين جراء جائحة كورونا ترتب عليه تباطؤ النمو العالمي وتأثُر دول مثل ألمانيا، قطب اقتصاد الاتحاد الأوربي، وتجمع بريكس BRICS (البرازيل، وروسيا، والهند، وجنوب إفريقيا)، حتى أمريكا التي وقعت عقوبات اقتصادية انتقائية ضدها، شملت حظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة، وخاصة الرقائق الإليكترونية، تأثرت أيضًا.
كانت الصين قد بدأت رحلتها مع المنتجات التكنولوجية في ستينيات القرن الماضي من خلال الهندسة العكسية واستنساخ الماركات العالمية من الساعات ولعب الأطفال والمنتجات الإليكترونية مع بعض لمسات طفيفة، ثم توسع الأمر مع تولي دينج شياوبنج الحكم (1978-1992)، واعتماده سياسة لا مركزية وتقديم تسهيلات وحوافز لجذب الشركات الأجنبية لإنشاء مصانع ومراكز إنتاج لتصدير منتجاتها إلى انحاء العالم والاستفادة أيضًا من سوق استهلاكي يفوق عدد سكانه المليار نسمة، في المقابل تولت تلك الشركات تدريب وتأهيل العمالة الصينية الرخيصة، فاكتسب الصينيون خبرات عالمية وفُتح الباب أمام فرص عمل هائلة ومتنوعة، ضاعفت نصيب الفرد من الناتج المحلي.
بحلول عقد التسعينات بدأ توطين التكنولوجيا عبر ربط الاستثمار الأجنبي باستخدام حد أدنى من المكونات المحلية، فتأسست سلاسل إمداد صغيرة خفضت كُلفة الإنتاج فارتفعت معدلات النمو، وسمح احتياطي النقد الأجنبي بالإعلان عن سياسات مالية استهدفت زيادة الصادرات عبر خفض قيمة اليوان أمام الدولار.
ومع بداية الألفية بدأت مرحلة نوعية جديدة اعتمدت على تطوير منتجات صينية المنشأ في كافة المجالات، (من الإبرة إلى الصاروخ)، جعلت من تقليد المنتجات ماضٍ قديم حل محله مراكز متقدمة للبحث والتطوير قادرة على تحويل الأفكار إلى منتجات تجارية ذات قيمة مضافة، فبحسب إحصاءات موقع Intellectual Property Fact Sheet تصدرت الصين العام الماضي قائمة براءات الاختراع العالمية بأكثر من 1,6 مليون تطبيق، تليها أمريكا بحوالي 600 ألف، فاليابان 300 ألف.
في زيارة لأمريكا، صحبت أحد الزملاء لشراء هاتف آيفون من متجر الشركة الأم بمدينة سان فرانسيسكو، معقل وادي السليكون، تجولنا في المتجر الهائل الحجم موقنين بأن كل ما فيه صناعة أمريكية خالصة، حتى إذا تفحصنا أحد الهواتف انعقدت دهشتنا من العبارة المدونة على غلافه المعدني؛ (صُمم في كاليفورنيا وصُنعَ في الصين)، بالاستفسار المقرون بالدهشة ابتسم البائع موضحًا أن وضع علامة آبل على المنتج تعني استيفاءه معايير الجودة المقررة، فالقضية إذًا لم تعد أين تُصنع، بل كيف تُصنع، وهو ما حدث في قطاع الطاقة المتجددة والذي لا تتسع المساحة لاستعراض ما اعتمدته الصين من سياسات وحوافز حقق ريادة عالمية اختلفت مستوياتها ما بين طاقة الرياح والطاقة الشمسية.
مؤكد أن المواجهة بين الغرب والصين لن تنتهي سريعًا؛ ففي الوقت الذي تعول فيه الصين على مرونة اقتصاد واجهت به انخفاض استثمارات قطاع العقارات، المساهم بحوالي 10% من الناتج المحلي، بضخ المزبد من الاستثمارات في قطاع الصناعة، المشارك بنحو 40% من الناتج المحلي، وإن انكمش معدل النمو المتوقع للعام الحالي إلى حدود 5%، يراجع الغرب أدواته ويعد أوراق لعب جديدة؛ سياسية وحقوقية، ففي مثل هذه المواجهات لا يتورع البعض من الضرب تحت الحزام.