(يا غزال اسكندراني/ الشوق رماني يا غزال/ ع الحليوة الاسمراني.. يا اسمراني ...)، دندن صاحبي ونحن نعبر نهر الطريق، ممصمصًا شفتيه كأنما يستطعم قطعة كرامل عذبة المذاق، ثم أردف، (ما هذه البساطة المفرطة وهذا الإبداع الراقي.. هذا نتاج طبيعي لشعر نظمه مرسي جميل عزيز، ولحنه بليغ حمدي، وشدا به محرم فؤاد..).
ثلاثي رائع تشعر معه أن كلاً منهم أدى دوره دون تكلف، كأنما كان يتنفس لا أكثر.
ابتسمت وسرعان ما سحبني شلال موج المعاني إلى أصداء صوت محمد رشدي يشدو (كعب الغزال يا متحني بدم الغزال/ أنا شايف الأرض بتتمرجح تحت الخلخال/ ما تبطل تمشى بحنيه ليقوم زلزال...) في الأولى كان الغزال بكامل هيئته محور الاهتمام، وفي الثانية اكتفى الشاعر حسين السيد في ضرب المثل من غَزَاِلهِ بذلك الموضع الذي يدوس به التراب فيصيبه من أذى الشارع ما يصيبه، لتُساءل وتُشاكس عقولنا أفكار من قبيل؛ إن كان هذا شأن الكعب فكيف لنا بملامح الوجه، وعند حدود أي قارة تعب شعرها الممتد مع خيوط الشمس فقرر الاستراحة، وماذا عن، وعن.. سامح الله حسين السيد!!.
وحسبُ القارئ الكريم أن يظن في هذه الكلمات تفضيلاً لشاعر على آخر، فمرسي جميل عزيز (1921-1980) شاعر عملاق غنى له أساطين الطرب، ولعل أغنية في مستوى (ألف ليلة وليلة) تكفي لتقديمه إلى أجيال لم تحظ بمعرفته نقتطع منها هذه الأمنية، ونردد خلف أم كلثوم وعلى إيقاعات الفلتة بليغ حمدي، (لا عُمر كاس الفراق المر يسقينا/ ولا يعرف الحزن مطرحنا ولا يجينا/ وغير شموع الفرح ما تشوف ليالينا/..). آمين.
بينما يكفي حسين السيد (1916 – 1983) أغنية (ست الحبايب) شَفيعًا إذ بوأته صدارة لا تضيق بكثرة المبدعين، بل تتسع وتتسع، أغنية تتردد وتتكرر ما ذُكرت ست الحبايب؛ (ست الحبايب يا حبيبة/ يا أغلى من روحي ودمي/ يا حنيّنة وكلك طيبة/ يا رب يخليكي يا اُمي/..)، رحم الله أمي وأطال الله في أعمار كل الأمهات.
أما الفذ بليغ حمدي (1932 – 1993)، فحدث ولا حرج عن فنان قلما يجود به الزمان، ويكفيه أنه لحن لكوكب الشرق وهو دون الخامسة والعشرين، عندما قدمه لها أستاذه الفنان محمد فوزي (1918-1966)، فلحن لها أغنية (حب إيه)، ثم توالت الأعمال، وأبدع لها أروع المقدمات الموسيقية، انصت معي سيدي القاريء إلى مقدمات أغاني (ألف ليلة وليلة، الحب كله، فات الميعاد، بعيد عنك، ..) وأخبرني متى تعود من عالم سِحرِ بليغ حمدي.
وإزاء هذا الاستطراد لا أظن سيدي القاريء أن بإمكاننا تجاوز قصيدة (يا ليلُ الصبُ متي غدهُ)، للشاعر الأندلسي أبو الحسن القيرواني (1029 – 1095)، والتي عارضها أمير الشعراء أحمد شوقي (1868 – 1932)، بقصيدة (مضناك جفاه مرقده)، وغناها الموسيقار محمد عبد الوهاب في واحدة من أروع أغانيه.
ويقصد بالمعارضة في الشعر، كتابة قصيدة في نفس مضمون وبحر وقافية قصيدة أخرى، وهي نوع محمود من المنافسة وبيان المهارات والبلاغة، وللحق تحظى كلا القصيدتين بمكانة سامية.
يقول القيرواني؛ (كلِفٌ بغزالٍ ذِي هَيَفٍ/ خوفُ الواشين يشرّدهُ/ نصَبتْ عينايَ له شرَكاً/ في النّومِ فعزَّ تصيُّدهُ)، وعارض شوقي قائلاً (الحسنُ حلفتُ بيوسفهِ/ والسورةُ أنكَ مفردهُ/ .... ما بالُ العاذلُ يفتحُ لي/ باب السلوانِ وأوصدهُ)، قل لي بالله عليك أي غزال كان هذا الذي أطلق رياحين شعر القيرواني وأجج ليل شوقي، لدرجة أن العاذل، وهو الأولى بأن يفرح، رق له وسأله السلوان، فما سلا (نسي)، بل راح (يقيم الليل ويقعده !!).