ما الذي دعاني إلى إعادة قراءة كتاب صدر منذ نحو تسعين عامًا مضت، يتحدث عن شخص رحل منذ أكثر من ألف عام، وما كل هذا الشغف الذي لازمني أثناء قراءته.
لم يكن كتاب (مع المتنبي) لعميد الأدب العربي، الدكتور طه حسين، مجرد دراسة عن أحد أفذاذ شعراء الجن المقيمين بوادي عبقر، ولا لأنه (شاعر العرب)، كما وُصِفَ، ولا لأن شعره ما زال قادرًا على الإلهام، ولا بسبب ما أشيع عن ادعائه النبوة، ولا لكونه الشاعر الذي قتله شعره، حين عايره فاتك الأُسدي على هروبه قائلاً، (ألست القائل: الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني/ والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ)، فلوى عنق فرسه وكر عائدًا ليبارزه فقتله فاتك ثأرًا لهجائه ابن اخته، بعد أن ترصد له وأغار عليه وهو عائد إلى الكوفة ومعه ابنه محمد وخادمه.
ولعلنا نتعجب حين نعرف أن العميد لم يُصدر كتابه حبًا في المتنبي، فهو (ليس أحب الشعراء إليه)، بحسب قوله، وقبل أن تسأل سيدي القاريء مستنكرًا، دعني أزيدك من البيت شعرًا وأخبرك أنه سطر كتابه هذا لسببين، الأول حُبًا في عناد نفسه، التي اعتاد أن يحملها من حين لآخر بما تكره، حيث قال (والناسُ يعرفون أني شديد العنادُ للناس، فليعرفوا أيضًا أني شديدُ العناد لنفسي كذلك)، والثاني رغبته في كشف سر حب المحدثين والأقدمين للمتنبي، فأوصى مرافقه أن يكتفي خلال سفره الصيفي باصطحاب ديوانه وعدم اصطحاب أي شروح له.
إذًا هو العناد الذي حمل العميد على إملاء كتابه في نحو ستة أسابيع من صيف عام 1937 قضاها وأسرته في إحدى القرى الفرنسية، ولعله أيضًا نفس سبب انتهائه من كتابه (الأيام) في أسبوع واحد !!.
وحتى لا تظن سيدي القارئ أني انشغلت عن السؤال الافتتاحي للمقال، أُخبرك أن مبتدأ الأمر وقع حين رحت أُقلب مكتبتي، أو ما اصطلحت على تسميتها بهذا الاسم، والتي لا تعدو بعض كتب رُص قليلها بعناية وكثيرها في غير ذلك، طمعًا في كتاب يُخرجني من خيمة كَدَر ضربت أوتادها مُعاندة محاولات اقتلاعها. فإذا بنسخة حديثة من الكتاب اشتريتها ضمن ما حملت من معارض الكتاب وانشغلت عنها، فتوارت عني.
وما أن شرعت أتصفح حتى غمرتني ريح شمالية مُعتقة بفكر العميد خلخلت أوتاد الخيمة، تلاها خرير أفكار رقراقة كَسَتْ سفح أفكاري بغلالةٍ شفافة أنبتت فكرة هذا المقال، إذ وجدت في الكتاب تأصيلاً لمنهج علمي غاب وتوارى عن كثير من نواحي حياتنا، ومنهجًا لدراسة ديوان شاعر فذ واستنباط مراحل نشأته ومواقفه من أسرته وقبيلته ومزاجه وميوله السياسية والدينية، بل ونفسيته، تتبع فيها مراحل حياته.
وهو عملٌ لو تعلمون عظيم، استدعى تفكيك نصوصه الشعرية والوقوف عند اللازم من الكلمات والزائد منها، وتصنيف ضعيفها وقويها، وما استدعته القافية والوزن وجافاه المعنى، وما سلك فيه سبيل أبي تمام والبحتري وغيرهما طلبًا للرقي الفني، وما أثر فيه من نشأة في بيئة شيعية ساخطة، واتصل به من محيط قرمطي هادمٍ للأصول. كل هذا والعميد يتجنب الإطالة والاسترسال، وإلا لدرس الديوان تفصيلاً.
ولولا مخافة الإفراط في المقال، لقدمت لك سيدي القارئ نماذج مما عرض في كتابه ولكني آثرت لفت الانتباه إلى المنهج لا الشخصية.. منهج نتعلم منه أصول البحث والتدقيق ونُسقطه على ما نعايش ونعمل، حتى وإن كان في غير ما نحب، وأن نتحرى –ما استطعنا- أحكامًا محايدة وإن خالفت أهوائنا.. بدأ العميد دراسته للديوان وهو للشاعر كاره وانتهى وهو له محب، فصوب رأيه من دون تكبر أو إنكار.