لترجمات نهلة الدربي عذوبة تحافظ بها على طزاجة النص الأصلي وسلاسة تدفقه، ترش عليه من ندى لغتها فتُبقيه ريانًا تتلألأ على نواصي حروفه قطرات النص الأصلي، تُجيد انتقاء مفرداتها من فدادين حقول الكلمات وعمارة هندسة تراكيب جُملها وفقراتها.
فعلى الرغم من خشونة المادة العلمية لكتاب بعنوان "أسواق الكربون الطوعية Voluntary Carbon Markets"، الصادر عن دار نشر مجموعة النيل الدولية، جاءت ترجمتها لينة وسهلة لموضوع أقل ما يقال عنه أنه سوف يصبغ كفيك باللون الأسود فور ما تفرغ من قراءته، شكرتها على الإهداء وانتظرت ترجمات أدبية وإهداءات لا شك تأتي على الطريق.
تخرجت نهلة في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، وحصلت على دراسات متقدمة في الترجمة، وصدر لها عدة ترجمات منها روايتي "الهروب Runway" و"حياتي العزيزة Dear life" للمؤلفة الكندية آليس مونرو، ثم جاءت تحفتها الأخيرة "الفتاة التي تركتها The Girl You Left Behind" للروائية البريطانية جوجو مويز (وتنطق أيضًا مويس)، الصادرة عن دار نشر عصير الكتب.
بمهارة ضَفَرَت مويز أحداث روايتها في إطاري سرد يفصل بينهما حاجز زمني يبلغ مائة عام تنقلت بينهما في رشاقة دون أن تفقد سيطرتها على لغة الشغف والتشويق، فاللوحة التي رسمها الفنان الفرنسي إدوارد ليفيفر لزوجته "صوفي Sophie" قُبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى تحولت إلى أيقونة ورمزًا للحب ليس بينهما فقط، بل وبين الرجل الذي اشتراها بعد مائة عام وأهداها إلى زوجته "ليف Liv".
أيضًا، ارتبطت حياة الفتاتين العاطفية باللوحة فضلاً عن تشكيلها خيطًا وهميًا ربط بين صوفي وليف، فعندما رفع منتسبو عائلة ليفيفر دعوى لاسترداد اللوحة بحجة تعرضها للسرقة، رفضت ليف في محض دفوعها التي قدمتها للمحكمة تشويه سمعة صوفي كي تثبت ملكيتها للوحة تقدر قيمتها بملايين الدولارات.
تبدأ الرواية أحداثها خلال الحرب العالمية الأولى واحتلال الألمان إحدى المدن الريفية الفرنسية حيث تعيش صوفي وأختها بعد سفر زوجيهما للحرب، وهناك تدير الأختان مطعمًا وفندقًا صغيرين، وخلال إحدى جولات التفتيش والمداهمة يتوقف القائد الألماني رافعًا المصباح أمام لوحة لفتاة ذات شعر طويل كثيف لامع يتدلى على كتفيها، فلا يتردد في إبداء إعجابه بها وما تضمنه تعليقه من فهم وخبرة في المدارس الفنية الأوروبية، ثم لا يلبث يستدرك سائلاً صوفي "أليست هذه صورتك"، عَرفًها رغم ما اعترى جسدها من ضعف جراء الحرب وويلاتها.
فالحرب هي الحرب سيدي القاريء، الكل في الحرب سواء، يترك المعتدي إنسانيته أمام عتبة بيته ويتحول إلى آلة قتل ثم يتجه للجبهة رافعًا راياته بعد نجاح كل عملية قتل، لا فرق أكان ذلك في ألمانيا، أو انجلترا، أو حتى في الصومال أو غزة. آلة التدمير واحدة. رائحة البارود واحدة. ودوي الانفجارات ولوعة الضحايا أيضًا واحدة.
تكررت ذات المشاهد في روائع ألبرتو مورافيا "امرأتان"، وتشارلز ديكنز "قصة مدينتين"، ولويس باسترناك "الدكتور جيفاجو"، وليو تولستوي "الحرب والسلام"، وحفلت بها رواية مويز، حتى ذلك الخيط الرفيع الممتد من جوف كهف الأمل السحري عشمًا في غدٍ يشرق فيمسح دموع الثكالى والأرامل والمحزونين، كان عاملاً مشتركًا بينهم جميعًا؛ اختلفت تفاصيله وبقي معناه.
رحلة طويلة من عذابات القهر والذل عاشتها صوفي من أجل عودة زوجها، وأمام حبها الشديد له، لا تتردد في التضحية بأي شيء في مقابل عودته من جبهة القتال، خاصة بعد ما وصلتها انباء عن أسره، فتذهب للقائد الألماني ومعها اللوحة وتطلب مساعدته واستعدادها لأي مقابل، فهل يساعد؟؟.
من هنا أدعوك سيدي القاريء للاستمتاع بقراءة الرواية والتعليق عليها.