للجغرافيا نافذة واحدة، وللتاريخ ألف ألف نافذة..
يتفق المتطلعون إلى الخريطة المعلقة على الجدار أن هذا بحرٌ وتلك يابسة، وذاك جبلٌ شاهقُ الارتفاع، وذلك تل، فإذا ما سألتهم عن تاريخ أهل الجغرافيا حَصلتَ آراء ووجهات نظر تتناحر على طرفي نقيض؛ إذ ينظر كلٌ منهم من نافذته ويُصدِر أحكامه. ما تراه عينا المؤرخ غير ما تراه عيون الجغرافيون.
في روايته أفندينا، وعبر سرد روائي شيق بذل الكاتب محسن الغمري جهدًا كبيرًا لعرض سيرة شاملة ومتوازنة للأمير عباس حلمي الأول (1813-1854) الذي حكم مصر بعد عمه إبراهيم باشا (1789-1848)، أكبر أبناء محمد علي باشا (1769-1849)؛ مؤسس الدولة العلوية القادم من قرية منسية في زمام إقليم قَوله باليونان.
نسج الغمري حبكته الدرامية من خلال عثور الراوي على مخطوط كتبه الشيخ صفاء الدين؛ خبير في تربية الخيول من ذات قرية الباشا الكبير، يتقن اللغتين العربية والتركية عينه محمد علي كاتبًا ومترجمًا.
في تلك الأثناء، ولد عباس خلال قيادة والده الأمير أحمد طوسون (1794-1816)، أوسط أبناء محمد علي، الحملة العسكرية لإخضاع الوهابيين بالجزيرة العربية لسلطة الخلافة العثمانية، وهنا وقعت مفارقة أثرت في حياته، فعندما شب صبيًا تولى تعليمه وتربيته دينيًا أحد أتباع محمد بن عبد الوهاب، فنشأ متشددًا لا يعرف المداراة والمناورة اللتان مَكنَتا جده من القضاء على أعداءه وحكم مصر، وإن خالف عباس ذلك التعصب في الاهتمام بمساجد وأضرحة آل البيت.
مع توليه الحكم تزعمت عمته الأميرة نازلي جبهة رفض ضمت بعض الأمراء والأميرات من أبناء وأحفاد محمد علي. كانت تُكن كُرهًا شديدًا له، فبذلت جهدها ومالها لزحزحته من منصبه وإفساح المجال لعمه الأمير محمد سعيد، الأصغر سنًا، في مخالفة لفرمان الباب العالي الذي منح الولاية للأرشد فالأرشد.
لم تنس نازلي يوم طلب، وبالأحرى أمر، الباشا الكبير عباسًا التخلص من نازلي التي فلت عيارها بعد وفاة زوجها وصارت سيرتها على كل لسان.
سعى أعدائه إلى إثارة القلاقل وتشويه صورته لدى السلطان العثماني الذي وجدها فرصة لفرض مزيد من النفوذ على بلد ظل عصيًا عليه لأربعة عقود تربع فيها الباشا الكبير على كرسي الحكم، ووصلت جيوشه إلى الجزيرة العربية شرقًا، ومنابع النيل جنوبًا، واليونان شمالاً، وليبيا غربًا.
بدأت الاضطرابات الداخلية في الإسكندرية على يد حاكم الإقليم، مما اضطر عباس لإرسال فرقة من الجيش لردع المتمردين، فيما خلصت التحقيقات إلى ضلوع عمه الأمير محمد سعيد، أمير آلاي القوات البحرية المقيم بقصر (ألق باري)، منطقة القباري حاليًا، في تلك الأحداث وما تلاها في البحيرة.
على الجانب الآخر، كان عباس صاحب رؤية في إدارة أصول الدولة وتعظيم جدواها الاقتصادية، حيث عمل على توسعة المصارف والقنوات المائية وتدعيم القناطر وزيادة الرقعة الزراعية، مما رفع دخل المحروسة إلى مستوى مكنها من إقراض عاصمة الخلافة في أوقات الأزمات المالية، فضلاً عن ذلك كثيرًا ما كان يتخفى في زي تاجر وينزل مع الشيخ صفاء لتفقد أحوال العامة تحت اسم الحاج عباس.
وبخلاف ما كان ينتظره عباس من استقرار حكمه مع مرور الأيام، كانت الأيام حُبلى بالصراعات والمكائد، مما أفقده التأييد السياسي لدى الباب العالي حتى بعد إعلان خطبة ابنه الأمير إبراهيم إلهامي ابنة السلطان عبد المجيد، ليُعثر عليه ذات صباح مخنوقًا بيد مماليكه الذين دستهم عليه عمته نازلي وفريقها.
وهكذا انتهت حياة رجل لم يختلف أحد على ما تركه من جغرافيا، بينما لم يتفق اثنان على تاريخه.. فللتاريخ ألف ألف نافذة.