ثلاثة جمعهم حب العلم والطموح واختلفت مذاهبهم، الأول سُني، والثاني إسماعيلي، والثالث حائر. ما أن تولي نظام الـمُلك الطوسي (1018م-1092م) منصب وزير السلطان السلجوقي حتى قَرَبَ صديقيه؛ حسن الصَبَّاح وعمر الخيام، فكان لكل منهم بصمته. بثبوت تعرض الخليفة العباسي المقتدي بأمر الله لمحاولة اغتيال، واجه الطوسي حرجًا شديدًا أمام السلطان مُلكشاه، والد زوجة الخليفة، بعد ما ثبت تورط الصَبَّاح وتمكنه من الفرار.
على إثر اختلاف في وجهات النظر بين الدكتور طه حسين وصديقه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون، أنكر فيها الدكتور صلة أبي العلاء المعري بالمذهب الإسماعيلي، وحتى إذا ما تأهب للسفر إلى فرنسا، كعادته صيف كل عام، طلب من صاحبه اصطحاب ديواني سقط الزند واللزوميات.
وبين أوقات قضاها العميد مع أسرته في التمتع بالطبيعة قضى ساعات طوال في رحاب شيخِ الـمَعَرة، يعيد اكتشافه شاعرًا فيلسوفًا قسى على نفسه أشد ما تكون القسوة، فحبس نفسه في بيته وعاش حياة كلها شظف وزهد، خمسة عقود لا يخرج فيها إلى الناس، بينما هم يتوافدون عليه لينهلوا من علمه.
كان المعري يصف نفسه بأنه إنسي الولادة وحشي الغريزة، نأى عن المجتمع واكتفى بالكتابة للكتابة، لا تملقًا لأمير، ولا نفاقًا لملك، وحسبه فكر رحب ضاق به الزمان والمكان، وكيف لا وهو الذي أُعد منذ يومه الأول أحسن إعداد، فتلقى من علوم اللغة وآدابها ما جعله وهو في العشرين من عمره في غير حاجة إلى مُعلم.
كان بعقله وفكره السابقين لأوانهما في صراع شديد بين الغريزة الوحشية والميلاد الإنساني فقرر الرحيل إلى بغداد ليتعلم ما شاء له الله أن يتعلم مقدار عام ونصف حزم بعدها متاعه كارهًا بعد ما بلغه خبر مرض أمه التي توفيت وهو في الطريق، حتى إذا ما نزل قبيلته أقام سجنه العضوي واعتزل الناس في بيته، اقرأ معي هذين البيتين (أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني/ فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ،، لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي/ وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ).
إذًا هي سجون ثلاث أقام فيها المعري؛ سجن كَف البصر، ولزومه بيته لا يخرج منه، وأخيرًا سجن نفسه السؤول التواقة للحرية الوثابة للمعرفة المقيدة في جسد محدود الإمكانات.
جال العميد جولته تلك مع أبي العلاء وحاول قدر استطاعته كبح جماح قلمه مؤثرًا الاستمتاع بما يقرأ عما يكتب، ولكن هيهات هيهات، فما هي إلا أيامًا معدودات حتى طلب من صاحبه أن ينشر أوراقه ويكتب ما يُملى عليه، فيأتي كتابه (مع أبي العلاء في سجنه)، قاصرًا على سجن النفس، فضلاً عن كتابين آخرين، ولعل كان العمر امتد به لأصدر كتابًا آخر عن صاحبه.
ولعلي أيضًا مُحق أن توافقًا ليس فقط بين فكر المعري في قوله (خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ/ الأرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ، وقول عمر الخيام (فامش الهوينا إن هذا الثرى/ من أعينٍ ساحرةِ الاحورار)، بل وفي تأملاتهما وثوراتهما حين يعجزا عن الفهم؛ يقول الخيام بعد ما اعيته الفتن (لبست ثوب العيش لم استشر/ وحرت فيه بين شتى الفِكَرْ).
ثَقُلَت الأيام على الطوسي، ولم يجد سوى صديقه القديم عمر الخيام يُفضي إليه بهمومه، فسأله (من منا نحن الثلاثة على حق؟)، فأجابه (كلنا على باطل..)، ثم أردف (أنا عبد خوفي، وأنت عبد السلطة، وحسن عبدُ نفسه).
صدق الخيام، صنع كل منهم سجنه وعاش يُعلي أسواره ويحصن جدرانه.. مشهد ذكرني بأبي العلاء بعد ما استوقفني في مسلسل (الحشاشين)، المحبوس أيضًا في سجن الإعلانات!